* ناجح حسن - «بارك الله المرأة»، «بيت الحمقى» و«العودة» عناوين لثلاثة افلام قادمة من روسيا عرضت في اكثر من مهرجان عربي ودولي بدءا من «كان» بفرنسا وفينيسيا بايطاليا، ومرورا بقرطاج والقاهرة وانتهاء في مهرجان دبي الذي اقيم للمرة الاولى في دولة الامارات العربية المتحدة وانتهت فعالياته منتصف الشهر الجاري، حازت جميعها على جوائز واعجاب المتفرجين ولا زالت تستقطب اهتمام النقاد ومتابعتهم لجهود صانعيها، مما اعاد بريق لسينما ازدهرت في حقبة الاتحاد السوفياتي السابقة قبل ان تنطفىء بانهياره، لكن اجيالا جديدة لرواد تلك السينما او من في حكمهم ممن عاصروا تلك الاعمال التي وضعت بصمتها على نتاج المشهد السينمائي العالمي عادوا اليوم باعمال جديدة متسلحين بافكار وتقنيات سينمائية نضرة ونافسوا بقوة في المهرجانات الكبيرة، ونالوا استحسان واعجاب كل من شاهد النماذج الفريدة الثلاثة واثبتوا فيها مجتمعين بغض النظر عن الجوائز والتقدير العالمي ان السينما لا تزال الفن الاكثر تعبيرا عن العصر، وان فن الفيلم هو اكثر الفنون قدرة على تجسيد لوعة المبدع والتعبير عما يجيش في صدره من غضب وحب وتمرد وعنف وقسوة ورقة تصل الى حد الشفافية الشعرية.
ان فيلما مثل «بارك الله المرأة» الحاصل على جائزة الهرم الفضي في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، واحدا من بين الأعمال السينمائية الروسية التي تصطف بقوة الى جوار تلك الكلاسيكيات السينمائية التي حققها مخرجون مكرسون لما يقدمه من نموذج فريد يسبغ فيه على المرأة قدرا من الاحتفاء والتكريم ومكانة لائقة في المجتمع تقف ندا متكافئا لشريكها الرجل في اقسى الاوقات واحلك المواقف الصعبة، وكل هذا يجري في اسلوب سمعي بصري خلاب مبتكر بالجماليات والبناء الفني والدرامي الدقيق، يزيده جاذبية وسحرا اداء ممثليه المتقن والفائق الالمام بحساسية الكاميرا في فترات الضعف والقوة وتبدل الاحوال والمكان. فالبطلة التي تضطلع بالدور الرئيسي بالفيلم وهي الممثلة الروسية سفيتلانا وتلعب دور «فيرا» وهي الفتاة الحسناء التي تعيش الى جوار والدتها الارملة في قرية بعيدة تقع على ساحل البحر كان زوجها قد قضى في الحرب وظلت تعنى بشقيقيها ووالدتها، لكن الفيلم يسير بحكايته منذ البداية عندما تمسح كاميرا المخرج البيئة التي تعيش فيها العائلة الصغيرة ونطالع تلك الفتاة الرشيقة القوام في حقبة الثلاثينات من القرن الماضي وهي تتجول في طبيعة هادئة وخلابة بديعة التكوين وخلف السكون الطاغي والملامح الجميلة للفتاة تبدأ حكاية اخرى يقودنا اليها الفيلم عندما يلتقي ضابط شاب صارم الهيئة بالفتاة ويختارها لمشاركة حياته، فهو في اجازة قصيرة من معسكره القريب ويعدها العودة بعد ليال ثلاث للزواج منها ليكتشف المشاهد انه في الايام الاولى لاندلاع الحرب العالمية الثانية وتمضي الاحداث متشعبة في علاقة الزوجين الذي يأخذها معه الى اماكن عديدة في ترحاله ومهماته العسكرية والمليئة بسرعة التنقل وعدم الاستقرار فالبلاد في حالة حرب وصراع دولي وواجباته ومتطلباته العسكرية تقتضي منه ان تلازمه زوجته بالبيت هو في واجبات عسكرية وهي وحيدة ومعزولة عن عالمه، ورغبتها في ميلاد طفل يؤنس وحدتها تصطدم بممانعته لها من الانجاب، وليس هذا فحسب بل ان الطفل الذي انجبه من زواج سابق له قد قرر ان يتخلص منه ويودعه احدى مؤسسات الرعاية الخاصة بالاطفال.
وتظهر صديقة لفيرا تعمل بالتمريض في الجيش وعندما تتطور الاحداث وترحل هذه الصديقة الى موقع آخر تتبنى اطفالها وتحملها الى امها في القرية البعيدة فتجد فيهم الأم تعويضا عن ابنائها الذين فقدوا بالحرب، وعقب انتهاء الحرب يصطدم زوجها بعدم مكافأته لقاء تنفيذه واجباته في الحرب ويتم احالته على الحياة المدنية ويعود محطما الى بيته يزاول الأعمال البسيطة واليدوية داخل المنزل الى ان يموت، وتقرر زوجته «فيرا» ان تذهب للعمل في احد فنادق البلدة وهناك تلتقي مع الاشخاص الذي يعرض عليها الزواج وانه سوف يمضي برهة من الزمان ويعود اليها وكأننا امام دائرة من الحياة المتصلة بالاحداث االجسام الملىئة بالعذاب والفراق والقهر والانزواء.
اختار مخرج الفيلم ستنسلاف جوفركين فترة الحرب العالمية الثانية وما قبلها وبعدها بقليل اطارا لاحداث فيلمه ولامس فيه تلك المشكلات الممتدة من دواخل النفس الانسانية وخصوصية المرأة في الحياة والعلاقات المتباينة ما بين العائلة والاصدقاء وتبدلها السريعة المتزامنة مع تحولات سياسية واجتماعية عاشها آنذاك بلد مثل الاتحاد السوفياتي السابق، فالمخرج الذي جاء للسينما من معهد فن السينما وكان احد اعضاء اتحاد السينمائيين السوفياتي على اطلاع واسع ودراية بجزئيات الفترة التي يناقشها العمل، مسلطا الضوء على الكثير من حالات البطولة والفساد والمطبات التي يصنعها اشخاص يتنافسون على الاستحواذ بمقدرات الآخرين بالرغم مما كان يقدمه البعض من شهامة ونبل واندفاع بالواجبات في ظل ظروف شديدة جزئية من تفاصيل الحرب التي عصفت بالاتحاد السوفياتي آنذاك دون ان يمنحها ابعادها الواقعية ومن دون ان يصدم المشاهد بلحظات ميلودرامية زاعقة تفيض فيها مشاعر بليغة من الحزن والتعاطف مع شخصياته العديدة الذين يحنو عليهم العمل، ويبرزهم في هيئة الضحايا الذين طحنتهم الحروب وجور اصدقائهم.
«بارك الله المرأة» فيلم عذب انساني يخاطب فيه صانعه العقل والعاطفة عن المسيرة المرهقة والصعبة في الحياة وعن الوحدة التي تقود الى ممارسات مفرطة من التعب والشقاء الانساني والحزن العميق، انه ايضا عمل ملحمي ينسج منه مخرجه دراما مكتنزة تبطن اكثر مما تظهر، وكأننا امام تراجيديا اسطورية من حقبة العصر الشكسبيري.
من زمن الحرب العالمية الثانية على الجبهة الروسية الى زمن معاصر هو زمن الحرب الروسية الشيشانية ينقلنا المخرج الروسي الشهير اندريه كونشالوفسكي بفيلمه المعنون «منزل الحمقى» وهو بالتحديد مصحة علاج لمجموعة من الناس الذين يعانون من امراض عقلية يعيشون في مكان واحد على طرفي الحدود الفاصلة بين القوات الروسية والمقاتلين الشيشان بحيث يظهر الفيلم هؤلاء الناس المرضى وكأنهم وحيدون في هذا العالم داخل مكان اشبه بالمهجور، وعلى مقربة منهم محطة القطارات والتي تبدو خاوية ايضا وتجيء براعة كونشالوفسكي بهذا العمل الذي يعود فيه الى السينما بعد فترة غياب وهو صاحب الكثير من الافلام السينمائية الناجحة سواء في حقبة الاتحاد السوفياتي السابق «المعلم الاول»، «سيبرياد» او في فترة منفاه بالولايات المتحدة «أناس خجلون»، «القطار الهارب»، برصد متين لتضارب المشاعر والاحاسيس اثناء الحروب، وكيف تتلاقى المصائر وتنقلب الحقائق في خضم واقع قاس يئن تحن نبرة اصوات العقلاء، فالمخرج يلتقط لحظة مريرة عايشها شخصيا العام 1996 عندما شاهد اجتياحا متبادلا لقوات روسية وشيشانية لمصحة نفسية في حرب تنقلب فيها اواصر تضرب في عمق التاريخ، ففي قرية صغيرة واقعة على الحدود يتلقى فيها المرضى علاجهم على مدار السنة، وضمن هؤلاء المرضى فتاة شابة ترتبط عاطفيا بأحد النزلاء ويزيد من هذا الترابط العاطفي تبادل الاغنيات التي يغنيها كلا منهما للآخر ابان لحظات الصغار الداخلي التي يمضيانها سويا بين جرعات تعاطي العلاج، وتمضي الأيام ويزداد الحب والتقارب الى حين ان تشتعل الحدود بالقتال والكر والفر لطرفي النزاع ووجهتهم دائما المصحة العلاجية مما يؤدي بالاطباء والممرضين بالهروب من المصحة تاركين المرضى وحيدين امام مصائرهم، فيبقى المرضى بالمصحة يعتني فيهم القادر بالضعيف والشاب بالعجوز ويبدأون في تناول دوائهم باساليبهم الخاصة من خزانات المصحة ويأخذون بالطهي وتبادل الوجبات فالمصحة العلاجية تبقى هي الملاذ الاخير لهم ولا من مكان آمن لهم سواها.
وعندما يحضر مقاتلو كل طرف الى احتلال المصحة يتفاجأوا بالحياة المسيرة ذاتيا فيه من هؤلاء المجانين وعندما يتأكدون من انه لا خطر منهم يتركونهم وحيدين ايضا ويتم في لحظات اخرى، ان يتعاون المرضى مع عدد من المقاتلين في واجبات العمل اليومي من حيث اعداد الطعام او تهيئة المكان وعندما تقع الفتاة بحب احد المقاتلين الشيشان تأخذ في التمزق بين مشاعرها مع زميلها الروسي المريض او الالتحاق مع المقاتل فهي تجد مع الأول صفاء الحب والحنان والرومانسية ومع الآخر دفئا انسانيا وانجرافا وتعاطفا وانجراف لحالتها المرضية.
صور كونشالوفسكي فيلمه في مصحة حقيقية وبأناسها الحقيقيين باستثناء بطلته التي وضعها لمدة شهرين لمعايشة واقعهم قبل ان يبدأ عمليات تصوير فيلمه الذي حققه بالتعاون الانتاج الفرنسي المشترك، مما شكل مفاجأة حقيقية لكل من شاهده نظرا لبراعته من قدرته على التأقلم في توظيف مرضى في اداء الادوار الرئيسية بالفيلم الذي يبدو وكأنه بطولة جماعية، وليعهد اليهم بموضوع شائك يناقش تداعيات الحرب تجاه اناس بسطاء لهم حالاتهم الخاصة، وفيه يفضح بقوة نزعة الحرب بين البشر العاديين امام حالة الصفاء الذهني والسلام الذي اجمع عليه اولئك الحمقى في مصحتهم وكأنهم في نعيم.
يشتمل الفيلم على الكثير من اغنيات براين ادامز والحوارات المتفجرة الخيال والدعابة في مواقف وطرائف وحواديث متبادلة بين ابطاله المرضى وكأن مصائر هؤلاء بالنسبة للمخرج اهم لديه من ضجيج الحرب وكان لمبالاة شخوصه وانحيازهم الى الخفة والأمل وفرح العيش اكثر منها التماسا بفجاجة الواقع وقبحه فقد اراد كونشالوفسكي العبور الى بوابة جنون الحرب التي تعصف ببلده حاليا عبر نافذة الكوميديا المنفلتة بنبرة انسانية وعبثية هازئة من كل ما يجري خارج بوابة المصحة، انها عالمهم الخاص والفريد وحياتهم التي اختاروها طواعية بعيدا عن تراجيديا الواقع المأزوم.
ويحضر الفيلم الروسي الثالث «العودة» من توقيع المخرج الشاب «اندريه زفايغترف» كتحفة سينمائية نادرة لا شبيه له في السينما العالمية المعاصرة انه قد يبدو حقا متشابها في احد جوانبه مع بعض ما صنعه رائد التشويق الفرد هيتشكوك في تناوله الدقيق لعناصر الترقب والمفاجأة التي تغلف موضوعه القاسي، لكن «العودة» ينتمي اولا واساسا الى تلك النوعية الدرامية الاجتماعية ذات المزيج الفاتن بالتشويق الانساني والمطعم بلقيات مواطنه المخرج الراحل اندريه تاركوفسكي ولم يكن غريبا ان يقطف قبل عامين جائزة مهرجان البندقية الكبرى.
فالعمل يحكي قصة فتى يلهو مع مجموعة من اقرانه الفتيان لكنه يعجز عن مجاراتهم في تسلق احدى منصات القفز العالية لرهبته من الاماكن العالية، مما يعرضه دائما لسخرية اقرانه المستمرة، ولا يجد ملاذا سوى والدته التي تبعده عنه دائما وتحضره الى البيت ليكون بجوار شقيقه، وعندما يحضر فجأة والدهم بعد غياب استمر سنوات طوال يكون واقع المفاجأة على العائلة متضاربا فالوالد يصر على اصطحاب ولديه دون والدتهم الى نزهة لصيد السمك في ساحل القرية البعيد عن المنزل والتي تبدو كبلدة مهجورة في اجواء عاصفة احيانا، وجميع احداث الفيلم تظل ملتصقة بابطاله الاربعة الرئيسيين وهم افراد العائلة وفي بيئة خلابة ساحرة بجماليات تكوينها من غابة ومياه هادئة وارض خضراء وزرقة مياه صافية، وفي الأفق منارة تبدو مهجورة وحركة قليلة لسيارات عابرة، فعقب انتهاء نزهة الصيد يكون شيء من العتاب حدث بين الأب وولديه ويتدرج الخلاف الذي تبدو فيه نبرة الأب قاسية تجاه ولديه، مما ينشىء شيئا من التضامن المستتر بين الولدين ضد والدهم فالغياب الذي امضاه الأب بعيدا عن عائلته لم يشفع لهما في التصالح والانسجام في علاقة انسانية كعلاقة الأبوة، بل نراه يهم بضربهما ويترك احدهما بعيدا عن البيت لحظة انتهاء النزهة، ليس هذا فحسب بل يخرجه عنوة في السيارة في طقس ماطر شديد البرودة قبل ان يعود اليه بعد مضي فترة من الوقت، وعندما يتعاركان مرة اخرى يهرب الفتى من والده تجاه المنارة ويلحق به الأب داعيا اياه للعودة الى المنزل وتبدأ مطاردة بينهما والفتى الذي اعتاد الخوف على تسلق الأماكن المرتفعة لا يأبه هذه المرة من مطاردة والده له وفي لحظة تسلق الأب للمنارة يحدث انهيار ويقع صريعا امام ولديه.
تساؤلات عديدة يطرحها الفيلم امام المشاهد وكلها تفيض بالاشارات والدلالات التي يستلهم فيها المخرج احداث ووقائع مستخلصة من عناصر فلسفية وتشويقية وتسجيلية للبيئة التي تسري فيها الاحداث على نحو تفتقر اليه افلام شبيهة اخرى. انه عمل فريد يتلاعب بتبدلات وسلوكيات شخوصه على نحو قلما توفر بهذه القوة والجماليات والفيلم بأكمله مصنوع كما لو كان دائرة ممتدة في السنوات العشر الاخيرة التي وجد فيها بلد مثل روسيا وما اصابها من تحولات، ويجيء اهتمام الفيلم بالطبيعة للتعبير عن مغزى فكرته الاساسية ويبرز فيها عنصر التصوير الخلاب الذي ينجح في السيطرة على الاضاءة ويجعل لقطاته تبدو كما لو كانت لوحات او تخطيطات فنان، انه باختصار عمل ملحمي تشويقي لا ينازعه في مرتبته اي فيلم آخر.
ثلاثة افلام من روسيا عن الحرب والعزلة والشغف الانساني
12:00 31-12-2004
آخر تعديل :
الجمعة