عمان- جمال عياد- ماذا يبقى من الإنسان ؟ ومن حضارته ، ومن عمرانه عبر المكان والزمان ، وبعد مرور الأزمنة ، فماذا بقي من عظمة جلجامش والفراعنة و الإسكندر المقدوني والإمبراطورية الرومانية وغيرها من الإمبراطوريات ، فإننا لا نبالغ إذا قلنا أن الذي يبقى حيا منها سوى القيم التي تظل سيارة عبر الحكايات التي تحفظ التاريخ البشري بواسطة الكلمة والحفر في المكان ، فتعكس هذه الحكايات طبيعة الشعوب ومزاجها ومواقفها وتقاليدها في التعامل مع الأرض وتوفير الموارد والذود عن حماها ، ومقارعة ألأعداء ، لا بل تكون هذه القيم المضيئة زادا وهاجا للعقل والفكر للإنسان في الراهن للإنطلاق نحو مستقبله وهو مدجج بهوية إنسانية وبصمة تعبر عن بيئته وجمالياتها التي نشأت معه. وبقدر تضمن هذا الشعب أو ذاك لمخزون من الذاكرة الحية التي يحفظ من خلالها حكاياته ، فإنه يظل مميزا ويعرف خياراته المصيرية وأين يضع في النهاية قدمه بثبات ورسوخ . وشعبنا كغيره من شعوب الأرض زاخرة ذاكرته بالقصص التي تحدد قسماته وخصائصه ، ومن ذلك ما ألفه محمد البطوش لنصه المسرحي عن حكاية واقعية دارت أحداثها في الكرك إبان الحكم التركي لبلادنا ، وقدمها المخرج محمد الضمور ضمن فعاليات مهرجان المسرح الأردني (12) في دورته الرابعة العربية .
منذ البداية وبعد انكشاف الخشبة أنبأت علاماتها السمعية والمرئية عن حضور فضاء مسرحي مغاير في المسرح الأردني لجهة إنشاء الشكل المتأسس على تناغم جماليات الموروث الشعبي الأردني من بيئة منطقة الكرك ، سواء عبر حكايتها أو تصميم الشخوص أ و تصميم الموسيقى أو انشغال الرؤية الإخراجية أو إنشاء السينغرافيا .
فتدور الحكاية في العرض في العام 1832 في حدثها الرئيس عندما يصل الثائر الفلسطيني أحمد القاسم والذي جسده ،عاصم فحماوي، مطاردا من نابلس من قبل القوات التركية إلى زعيم الكرك آنذاك إبراهيم الضمور ، وقدمه نبيل المشيني، لاجئا إليه ك «دخيل» عليه من عسف الجيش التركي و وخصوصا بعد أن انكرته أغلب القبائل والعشائر التي طالبهم بحمايته ، وبعد أن يقبل بحمايته يستطيع السلطان إبراهيم باشا ، قائد الجيوش التركية التي كانت تحاصر الكرك ، بأن يصل إلى طفلي إبراهيم الضمور (السيد ( و (علي)، وجسداهما عبادة وعمر الضمور . والذين كان هو وزوجته ( عليا)، قدمتها عبير عيسى، يعشقانهما بجنون ، فيطالب السلطان التركي الضمور بتسليمه الدخيل القاسم و الكرك والتي كانت عصية على ضمها مباشرة للإدارة التركية بسبب وقوعها على طريق قوافل الحج ، و إلا فسوف يقوم بحرق طفليه بنار عظيمة ، غير أن الضمور و زوجته يرفضان ذلك ، لا بل يرسل دابة محملة بالقطران والخشب للسلطان التركي إمعانا في تحديه وكتأكيد على عدم استعداده بالتراجع عن القيم التي تشكل المجتمع العربي .
اندفعت الشخوص برشاقة تعبيرية إلى الأمام ، فكانت حية ضمن السياق الدرامي سواء على المستوى الخارجي التي طرحته إيحاءات خطوط و ونقوش تعبيرات أزياء الملابس الكركية لجهة الذكور و الإناث و، المراتب الاجتماعية وخصوصا شخصية السلطان إبراهيم باشا فضلا عن لعب الماكياج، التي قدمته نجاح ألخالدي، في إبراز جماليات قسمات وجوه الشخوص ، أو لتجسيد الشخوص الكركية ذات الهواجس والمواقف الأصيلتين اللتين تسكنان القيم العربية الحميدة من كرامة وشهامة ومروءة ، فحتى الشخصية الكركية الوحيدة التي كانت تحاول إقناع إبراهيم الضمور برد الدخيل، والتي قدمها عبد الكريم القوا سميي ، حملت السلاح للدفاع عن حمى الكرك .
وجاءت الموسيقى التي ألفها نور أبو حلتم عضوية من نسيج المسرحية ، فاستقى من ضربات المهباش وحدة موسيقية ، اشتغل عليها نغميا مشكل منها جملا لحنية أسهمت في مشهد الافتتاح في إرخاء وتعزيز البيئة العربية المطلوبة إخراجيا ، فضلا عن الإفادة من صوت ضربات حوافر الخيل أيضا في إضفاء التوتر الدرامي ، وإلى غير ذلك من الإفادات المشابهة وخصوصا في تقديم إيقاعات الر قصات التي صممها ياسر المصري وشارك في أدائها .
لجأ الإخراج إلى إنشاء الفضاء «فرجويا» احتفاليا قيميا متعالي في خطابه المتضمن أسئلة المصير الإنساني المستنطقة هواجسه الداخلية لحظات افتراق الإنساني من النوازع في دو اخل البشر عندما يختار البعض الرجوع إلى حظائرهم الحيوانية الأولى الهمجية وذلك في اللحظة التي توجهت هذه النوازع إلى قرار حرق طفلين بريئين لا تزال طفولتهما مستغرقة في استكشاف ما حوليهما، تاركين بذلك ما راكمت البشرية من حضارة والاتجاه نحو النكوص نحو مستنقع القبح اللا أخلاقي، لذلك انهمكت رؤية الضمور في إظهار بل الكشف عن مواقف الشخوص المختلفة في كيفية حسم مواقفها تجاه هذا الافتراق في حياتنا المعاشة وعلاقة كل منا بالآخر وبصراحة : بين ماهو حضاري منتميا إلى الجمال وغير حضاري منتميا إلى القبح. فحتى «العرافة» ، التي تقمصتها رانية فهد ، وهي تحاول تفسير الكوابيس التي كانت تراهما شخصيتي إبراهيم الضمور وزوجته ، لم تتخلى عن عملها حول ما كانت ترويه
وجاء النجاح في توظيف السنغرافيا عبر تقديم المفردات الديكورية الرمزية التي صممها كلا من محمد أبو حلتم و بدر محا سنة ، التي شكلت حيز موقع بناء بيت شخصية إبراهيم الضمور ، عبر بث إشارات تواصل معها المتلقي كعلامات واقعية للمكان الذي دارت فيه حركة حيويات شخوص العرض ، وعمق من هذه العلامات تصاميم الإضاءة والتي جاءت قاتمة معمقة لغة هذه المسرحية التي جاءت خطوة إلى الأمام في مسار المخرج محمد الضمور في بحثه الجمالي الذي يتمحور أساسا في إنشاء الفضاء الدلالي المتأسس على عناصر من البيئة الشعبية ألأردنية .