رعد تغوج
للشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي خطابٌ فريد وخصوصية شعرية ، هي البنية الأساس التي يتكون منها خطابه «النثرشعريّ» الفريد.
وإذا كانتْ الأجناس العربية الإبداعية أمام أزمة أُسس على مستوى النقد، فإننا أمام أزمة أخرى في التعاطي مع إبداع مثل إبداع تميم البرغوثي لخطاب يُوصف بأنه مَزّقَ الصُورة التقليدية للجنس الأدبيّ، ومزج عن سابقِ فن وحساسية بين النثر والشعر ، بل بين التقاليد السًّردية القديمة ومُنجزات ما بعد الحداثة، في صيرورة لم تتطور إلا عبر حرق المراحل في عالمنا العربي، واختصار الزمن الضائع في كبسولة ككبسولة بورديو الضائعة في مفازات التأويل و الرمز والغموض.
شِعرَ تميم واضحٌ وهذه مُفارقته الأولى عن براديغمات الحداثة الشعرية العربية، فضِداً لمقولة أدونيس – التي نسبها لناقد عربي قديم لم يذكر اسمه – والتي تقول : «أفخر الشعر ما غمض»، ينطلق تميم من محكي واضح ولغة مُباشرة على مستوى المُفردات والتراكيب، وذلك رغمَ إتقانه للقافية الصعبة في شعره العمودي، أو شعره الممزوج بين العمودية والنثرية، فهو يستخدم الروي الوعر الذي لم يمنعه من السهولة والمُباشرة.
ففي تخميسته المشهورة «على قدر أهل العزم»، تتنوع القوافي وأحرف الروي في تجاويف المتن كله، فيستخدم روي « الميم» في مطلع القصيدة، ثم ينتقل إلى الهاء بإبداع يوازي التناص السَّردي مع قصيدة المتنبي الشهيرة، فيقول في مقطعٍ كامل: أتَتْنا ليالٍ ليسَ يُحفظُ جارُها ... ونارُ أسىً نارُ الجحيمِ شَرارُها يُفرقُ ما بينَ الرجالِ اختبارُها ...وتَعْظُمُ في عينِ الصغير صغارُها وتصغر في عين العظيم العظائمُ ومما يدل على تنوع معجم تميم هو توظيفه « للحرف العامودي» في الرويّ، فالهاءُ مثلاً تكون مخفوضة أو مرفوعة أو مفتوحة أو هاء للسكت (الوقف) أو الهاء الساكنة، ويُمكن تمثل ذلك في المربع السيميائي للبدائل الذي طرحه فرندياند دي سوسير.
انَّ بنية التوتر في الحرف الذي يستخدمه تميم البرغوثي يُحَول الموسيقى إلى أداة جمالية تنتقل من الصامت إلى الصائت في تراتبية هرمية تُعزز الإيقاع المسرحي في سرده المُبعثر بين العامودية والنثرية والخطابية ، فلطالما شكتْ الأشعار النثرية من بنية موسيقية مُتماسكة وايقاع متزن يخلو من التكلف، والدرس الصوتي – الموسيقي أصبح ضرورة ملحة بعد عمليات المونتاج التي حدثت لشعر الحداثة العربيّ ، والدراسة الصوتية صارت أيضاً تحتلُ مكاناً مرموقاً في المقاربات الشعرية كما يقول محمد مُفتاح.
ويختلفُ تأليفُ الشعرِ وتعريفهُ عندَ تميم البرغوثي عن غيره من القدماء والعَصريين على سواء، فهو ليس مجرد كلامٍ مُقفى موزون على سبيل القصد كما يقولُ الجُرجانيّ في التعريفات، وربما كان أقربُ إلى تعريف الشعر باصطلاح المنطقيين: قياسٌ مؤلفٌ من المُخيلات ، والغرض منه انفعال النفسِ بالترغيبِ والتنفير ، كقولهم :الخمرُ ياقوتةٌ سيالة والعسل مُرَّةً مهوّعة كما وردَ في تعريفات الجُرجانيّ أيضاً، ورغمَ أن تميم البرغوثي كتب الشعرَ العامودي الخالص مثل قصيدته «قفي ساعةً» وقصيدة «إن سار أهلي»، إلا أنَ بنية الشكل السردي عنده تأخذُ منحى المزج بين العمودية والنثرية بأسلوب ملحمي واضح، مثل قصيدة «في القدس» التي بدأت ببنية عمودية كلاسيكية ثم انتقلت إلى النثرية السردية الحرة منذ البيت السادس.
أحياناً يكون لهذا الالتفات السردي وظيفة شاعرية تُوظف مدونة التراث العربي السرديّ والنحويّ في قضية الالتفات، وتُوظف في نفس الوقت مفاهيم القراءة الجديدة ووظيفة القارئ، وتأتي هذه المقاربة في موازاة إعادة التوازن بين القطبين المُكوِنَين للإنتاج والإبلاغ الأدبيين كما يقول ايمانويل فريس، وظاهرة الالتفات لا يُمارسها الشاعر هنا على مستوى الفونيمات والتراكيب الصغيرة، إنما على مستوى النص ككل، أي كخطاب لسانيّ يزحزح معه البنية العميقة والسطحية للسرد، ويحدث في موازاة ذلك توتر نفسي هو أعلى ما يصل إليه الخطاب الشاعري، ففي قصيدة للشاعر تُسمى «سفينة نوح» ، تتزحزح الخطابات السردية في هذه القصيدة من الخطابية إلى النثرية إلى المسرحية ووصولاً إلى العمودية، وعبر هذه المستويات يلتفت النص من المتكلم إلى الغيبة إلى الحضور، وتتفجر البنية العميقة في مَسرحة الشعر نفسه عبر توظيف مترادفات القول ومقول القول كما يُسمى في الدرس النحوي، والشخصيات التي تتحدث داخل المتن الشعري ، مثل شخصية الجدة والجنود والممدوح والطفل. يبقى أنَّ لتميم هُويّة شعرية مُتجاوزة لسرديات الشعر العربيّ المُعاصر، إنْ على مُستوى الشكل والمضمون، أو على مُستوى الموسيقى والإيقاع، وهُو بذلك نتاج بيئة انفتحتْ على الأساليب الملحميّة والدرامية في الشعر، ومارست التجريب الشعريّ في أبهى وأنقى صورة.