تعد د. فاطمة المرنيسي من أبرز رائدات الفكر النسوي المعاصر، نشأت في أسرة مغربية بورجوازية مناوئة للاستعمار الفرنسي، ووفرت لها أسرتها تعليماً في مدارس حرة في الرباط، ثم واصلت تعليمها في فرنسا ومن ثم أميركا، عملت في مجال البحث والتدريس وأصدرت عددا من الكتب باللغة الفرنسية تُرجمت إلى لغات مختلفة، ومعظمها تُرجم إلى العربية والإنجليزية.
تمحورت معظم كتابات المرنيسي حول مناقشة مشاكل المرأة العربية، ولم تطرح أفكارها حول قضية المرأة بناء على تصورات وآراء سائدة في المجتمع، وإنما عمدت كباحثة وعالمة اجتماع إلى إجراء أبحاث ودراسات علمية حول عدد من الظواهر المتعلقة بالمرأة، بغية وصف تلك الظواهر والكشف عن أسبابها الحقيقية وتفسيرها، ومن ثم اقتراح أساليب لمعالجة المشكلات بناء على ما يستخلص من نتائج الدراسة، وقد تحدثت في كتابها «السلوك الجنسي في مجتمع إسلامي تبعي» عن مشاكل المرأة الجنسية مستندة إلى دراسة أجرتها بنفسها؛ واستنتجت منها أن الرجل الغني يعتقد أن المرأة الشريفة ينبغي ألّا تعمل خارج المنزل، وأن الشخصية البورجوازية المسلمة المعاصرة تتميز بمواقف تجعلها شبيهة بالغاشمة، فهي تعادي كل ما هو عربي قولا لا فعلا، وتزدي الخدم والفلاحين المعدمين وول الضعفاء والفقراء، وبخاصة النساء، وتُعجب بمن يملكون السلطة والمال.
واستنتجت الباحثة أيضا أن السياسيين والمثقفين في المغرب الذين يدّعون أنهم يسعون إلى تحديث البلاد يتشنجون إزاء أيّ تغيير يتعلق بعلاقتهم مع المرأة، وتحدثت عن تطور العائلة المغربية وأظهرت التباين بين الصورة الرسمية للعائلة وبين ما هو موجود في الواقع، والذي يتصف بانهيار سلطة الأب وعجزه المادي وتقلّص دوره، نتيجة للتطورات التي حدثت في المجتمع، والتي أدت إلى البطالة وعدم توفر فرع العمل. وأشادت المرنيسي بنساء البادية وبما يقمن به من أعمال منتجة إضافة إلى ما يقمن به من أعمال منزلية، وطالبت بتحسين أوضاعهن ونبهت إلى أن طلاقهن يؤدي إلى طردهن من العمل وعدم حصولهن على تعويض.
وانتقدت المرنيسي في هذا الكتاب قوانين الأحوال الشخصية، والأسرة التقليدية، وأشارت إلى أن مدونة الأحوال الشخصية في المغرب تعدّ المرأة مخلوقا جنسيا يجري تبادله بين الرجال الذين يتوجب عليهم أن ينفقوا عليها، وتحمي هذه المدونة مصالح المرأة الغنية التي تملك ثروة تديرها، ولا تحمي المرأة الفقيرة التي تبحث عن عمل.
ونبهت المرنيسي إلى إخفاق الدولة الوطنية في إيجاد فرص عمل للنساء، وتشجيعها نظام الأسرة التقليدية وما يفرض من تفريق للأدوار بين الجنسين، فتعرّف المرأة بأنها عضو غير منتج، ولذلك تجد المرأة نفسها معزولة ومهددة دائما بالطلاق أو بتعدد الزوجات. وانتقدت أيضا الرجل المسلم الذي يناقض نفسه ولا يلتزم بما أمر الله به، فيبيح لنفسه إقامة علاقات جنسية قبل الزواج، لكنه عندما يرغب بالزواج يشترط أن يتزوج بكرا، الأمر الذي أدى إلى أن تعم ظاهرة البكارة الصناعية (استعادة الفتاة غشاء البكارة عن طريق عملية جراحية)، وهذه الظاهرة، بحسب المرنيسي: «رمز إلى قلق قديم قمعَ رغبة الجنسين في أن يتبادلا الحب والاحترام.. ومصدر هذا القلق هو انعدام المساواة الجنسية الذي يعادي الطبيعة والمجتمع».
وأكدت المرنيسي أنه لن توجد ديمقراطية في المجال السياسي ولا في المجال الاقتصادي ما دامت المرأة خاضعة للسيطرة، وأنه يستحيل إحداث أي تغيير في العلاقات الاقتصادية والسياسية إذا لم يسبقه تغيير على مستوى الخلية العائلية، لأن المرأة تشكل ركيزة النسق التراتبي الذي يريد السياسيون والمثقفون تغييره.
ونظرا لأن مشاكل المرأة في العالم الإسلامي غالبا ما ترتبط بالعلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة، حاولت المرنيسي، كما هو واضح في كتابها «ما وراء الحجاب»، دراسة هذه الظاهرة، ليس من زاوية بيولوجية سيكولوجية فقط، مثلما فعلت النسويات في الغرب، بل من زاوية دينية أيضا، بغية وضع أسس لنظرية جنسية تبرز فعالية المرأة، فبحثت عن هذه الأسس في التراث الإسلامي التاريخي والفكري، وأفرزت منه التصورات الإيجابية عن العائلة وعن العلاقات بين الجنسين، وقد لاحظت أن نظرية الإسلام عن الغرائز تقترب من المفهوم الفرويدي الليبيدي؛ لكن الفرد، بحسب فرويد، مجبر على التخلص من غرائزه أو التحكم فيها مبدئيا، أما في النظام الإسلامي فهو غير مجبر، بل المطلوب منه ممارستها تبعا لما تفرضه الشريعة فقط.
ولاحظت الباحثة أن المجتمعات الإسلامية تعيش في ظل نظريتين؛ تتمثل الأولى في الاعتقاد السائد بأن حياة الرجل الجنسية تتسم بطابع فعال في حين أن حياة المرأة الجنسية ذات طابع سلبي، أما النظرية الثانية فهي تعبر عن المكبوت في اللاوعي الإسلامي الذي عبر عنه الغزالي في كتابه «إحياء علوم الدين»، حيث يرى أن الحضارة مجهود يهدف إلى احتواء سلطة المرأة الهدامة والكاسحة؛ لذلك يجب ضبط النساء لكي ينصرف الرجال إلى واجباتهم الاجتماعية والدينية لأن متطلبات المرأة الجنسية، بحسب رأيه، عارمة، ولأن إرضاءها من قبل الرجل يعدّ واجبا اجتماعيا، وهذا خلاف ما جاء به فرويد الذي عدّ المرأة سلبية وباردة جنسيا. وأشارت الكاتبة إلى أن النظرية الثانية التي تؤكد فعالية المرأة لا تلقى صدى عند الرجال والنساء، بينما تلقى النظرية الأولى صدى عندهم لأنها «مجذرة في التصور الذي يملكونه عن ذواتهم».
وخلصت المرنيسي في تحليلها لطبيعة العلاقة الجنسية وفق التصور الإسلامي؛ إلى أن في الإسلام نظرية حول الغرائز تعدّ الغريزة الجنسية «طاقةً خام» يمكن أن تسخَّر بطريقة بنّاءة لخدمة المجتمع، «فالجنس في حد ذاته، وفقا لهذه النظرية، لا يشكل خطرا، بل إنه على عكس ذلك يؤدي ثلاث وظائف حيوية وإيجابية، فهو يمكّن المؤمنين من البقاء على الأرض كشرط ضروري لوجود النظام الاجتماعي، وهو يمنح المؤمن فكرة عن الذات الموعودة بالجنان.. أما الوظيفة الثالثة فتكمن في الدور الذي يلعبه الإشباع الجنسي الضروري لكل مجهود فكري».
وترى الكاتبة أن النظرية الإسلامية حول التسامي؛ تختلف اختلافا جذريا عن وجهة نظر فرويد التي مفادها أن الحضارة حربٌ ضد الجنس، وأنها طاقة حُرفت عن هدفها الجنسي نحو أهداف اجتماعية سامية لم يعد لها طابع جنسي، بينما النظرية الإسلامية تعدّ الحضارة نتيجة لإشباع الطاقة الجنسية، فليس التركيز على العمل نتيجة للحرمان الجنسي، ولكنه نتيجة لممارسة جنسية مشبعة ومنظمة، ولهذا حثّ الإسلام على الزواج كوسيلة للحماية من الزنا، وجعل إرضاء الطرفين جنسياً شرطاً لتجنب الزنا.
ونبهت الكاتبة إلى أن الإشباع الجنسي الذي حث الإسلام عليه حُرّف عن معناه؛ وكان نتيجة ذلك تمسك المجتمع الذكوري بظاهرة تعدد الزوجات، وحذرت من الأخطار النفسية التي تنجم عن هذه الظاهرة، وقالت: «إن للتعدد تأثيرا نفسيا على إحساس الرجال والنساء بالكرامة، فهو يرسخ التصور الذي يملكه الرجال عن ذواتهم ككائنات جنسية قبل كل شيء، ويعزز البعد الجنسي في الخلية الزوجية، وهو كذلك وسيلة يمارس بها الرجل إذلال المرأة ككائن جنسي؛ إما بادعائه عجزها على إرضائه، أو الادعاء بأن التسليم بفعالية حياة المرأة الجنسية سوف يزعزع كيان النظام الاجتماعي ويترتب عليه نتائج تمس مجموع بنية هذا النظام».
لم تُقم المرنيسي قطيعة مع التراث الديني لإدراكها مدى تأثيره على عقلية وقيم الناس في المجتمع الإسلامي، وأدركت ما يتضمنه هذا التراث من موضوعات وأفكار غنية يمكن أن توظَّف بطريقة تخدم قضية المرأة، وقد تبنت الهرمينوطيقا منهجاً لقراءة النصوص الدينية، ودعت إلى إعادة قراءتها بسياق متجذر بواقع تاريخي سياسي اجتماعي وتأويلها تأويلا عقلانيا، وفندت في كتابها «الحريم السياسي»، آراء رجال الدين المنتمين للتيار السلفي الذين ينكرون قدرات المرأة؛ ويدّعون عدم أهليتها لكل ما يتعلق بالدين من واجبات؛ مستندين إلى حديث ينسبونه للرسول فحواه: أن النساء قليلات عقل ودين.
لتفنيد هذا الادعاء وغيره من الادعاءات التي تسيء للمرأة، وتضيع حقوقها، وتؤدي إلى عزلها، أجرت المرنيسي بحثاً أنثروبولوجياً في التراث الإسلامي، وبحثت عن مصادر الأحاديث المعادية للمرأة، وكشفت عن حقائق تجاهلها الفقهاء أدت إلى استبعاد النساء عن المجال العام وحطّت من قيمتهن، وأظهرت أن بعض الرواة كانوا يكذبون في روايتهم للأحاديث «ابتغاء مصلحة مادية أو مصلحة إيديولوجية»، وأكدت أن الإسلام دين يحث على إعمال العقل في فهم شؤون الحياة، وأن مبادئه الأساسية تتوافق مع روح العصر الحاضر، وقالت: «يمكن أن نفكر أو نحلم بأن إقامة نظام للمبادئ الأساسية في الإسلام بصفته حضارة للكتابة، سوف يسمح، على الأرجح، للوصول منطقيا، إلى إعلان حقوق للإنسان مماثل في اتجاهاته الكبرى للإعلان العالمي لحقوق الإنسان،... ليعيش الإسلام المعاش الذي يحكم العلاقات اليومية المساواة كحيز داخلي للنمو».
يلاحظ القارئ المتابع أعمال المرنيسي أن آفاقها الفكرية قد اتسعت في كتابها «الخوف من الحداثة: الإسلام والديمقراطية»، حيث تعدت إطار الاهتمام بمشاكل المرأة المغربية والمرأة العربية ليشمل اهتمامها مشكلات الإنسان العربي بعد أن أدركت تعاظم تأثير التيار الأصولي السلفي وتحالفه مع السلطة الحاكمة التي توظفه، وفساد سياسة البترودولار وتلاعبها بمشاعر الناس الدينية، وتبينت أن أزمة المرأة العربية «تبدو في الواقع والتاريخ من خلال العلاقة بين الحاكم والمحكوم، لأن قضية المرأة، ليست مجرد قضية جنس مؤنث تجاه جنس مذكر، أو قضية تخلف اجتماعي أو انحطاط فكري، أو قضية دينية، بل هي بالإضافة إلى ذلك كله قضية أزمة السلطة السياسية في علاقتها بالناس منذ فجر التاريخ العربي».
لهذا استعرضت المرنيسي في كتابها أشكال الخوف الفردية والجماعية التي تسكن في اللاوعي العربي الجمعي، وهي الخوف: من الغرب الأجنبي، ومن الإمام، ومن الديمقراطية، ومن حرية الفكر، ومن الفردية، ومن الماضي، ومن الحاضر. وأشارت إلى أن المرأة تقف عند كل المخاوف لأنها تُتَّهم بالخروج عن المألوف والخروج عن الحدود إذا خرجت في الطريق دون حجاب، وتُقرَن بالشرك والفوضى وعدم التوازن الاقتصادي إذا خرجت إلى سوق العمل، فالنساء، على حد تعبيرها، «هن المخصصات كضحايا في طقوس إعادة التوازن الاقتصادي.. وهن من يُستخدمن من أجل ضمان الهوية».
وترى المرنيسي أن العرب يخافون من ماضيهم ويتجاهلونه، ولذلك دعوا الماضي السابق للإسلام: «الجاهلية»، وأنهم تجرأوا على القيام بعملية لم تستطع أي حضارة أخرى أن تتجرأ عليه، وهو تجاهل الماضي المظلم من جهة، وحجب المؤنث من جهة أخرى، مع أن الماضي والمؤنث، بحسب قولها، «هما القطبان اللذان يسمحان بالتأمل في مصدر كل الأحوال».
ودعت الباحثة في هذا السياق، إلى إعادة قراءة الماضي وفحص كل مقومات الحضارة العربية «لأننا إذا فهمنا ماضينا قلَّ إحساسنا بالغربة عن الغرب وعن الديمقراطية»، وحذرت من غرس بذور الفتنة في المجتمع الإسلامي وأكدت أن الإسلام انتصر حين أحلّ الرحمة محل الفتنة وانعدام الأمن والعنف، «ذلك أن الرحمة مفهوم غني ذو مظاهر متعددة: إنها في الوقت نفسه الرقة، والعطف، والمغفرة.. إنها كالحم المشتق من المصدر».
تعتقد المرنيسي أن حرب الخليج حطمت كل دوائر الخوف المحيطة بالعرب، وأن النساء أدركن بعد هذه الحرب أنه لا يمكن أن يحصل للعرب أكثر مما حصل، لهذا خرجن من خوفهن أحراراً لا لأنهن تخلصن منه ولكن لأنهن وضعنه تحت إرادتهن، فالنساء لا يخشين الحداثة لأنهن «متلهفات في المغامرة في المجهول.. ولا يخشين الحرية لأنهن متلهفات للرسو على تلك الشطآن الجديدة حيث الحرية ممكنة».
وفي كتاب «صور نسائية» الذي شاركت في تأليفه، وتحت عنوان «الدولة، التخطيط الوطني، والخطاب العلمي حول المرأة»، ناقشت المرنيسي السياسات المسيئة للمرأة في العالم العربي وفي الولايات المتحدة وفي الصين. وبينت أن السياسات المعادية للمرأة ترتبط في الولايات المتحدة والصين بالتخطيط القومي والخيارات المتعلقة بالموازنة، وتحصل تحت مظلة الاستراتيجيات الديمغرافية للدولة عن طريق ممارسة الردع بالإقناع في الصين، وعن طريق التلاعب بالسياسات والاتفاقيات في الولايات المتحدة لإرغام النساء على اتباع سلوك يستجيب لمتطلبات التخطيط القومي، وبذلك لا تتشوه سمعة الدولتين في المسرح الدولي، بينما سياسة معاداة المرأة التي تمارَس في العالم العربي، تشوه سمعة العرب والمسلمين في الأوساط السياسية العالمية وتعزز في الوقت نفسه كراهيتهم من قِبل الشعوب الأخرى وتجعل صوتهم غير مسموع في الأمم المتحدة والمحافل الدولية.
وأوضحت أن كل ما نقدمه ردا على الاتهامات الموجهة للعرب والمسلمين؛ هو خطاب ديني يتجاهل المسائل السياسية والاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بالنساء، وما في قوانين الأحوال الشخصية في عالمنا من اختراق لحقوق المرأة، ويتحول في المحافل الدولية كاليونسكو والأمم المتحدة، للحديث حول صحة الأحاديث النبوية والجدل في المسائل الفقهية الدينية، فنحن حتى اليوم لم نستطع أن نطور خطابا علميا حول المرأة لأننا لم ندخل بعد عصر التخطيط الاقتصادي الذاتي المركزي، وما زال خطابنا العربي بعيدا عن الحقيقة وخاضعا للسوق الرأسمالية العالمية.
خلاصة القول؛ في الوقت الذي وُضعت فيه قضية المرأة تحت المجهر في معظم دول العالم، سلطت المرنيسي الضوء على أبرز مشكلات المرأة المغربية بخاصة والعربية بعامة، ولم تكتفِ بالكشف عن هذه المشكلات أو الوقوف عند حدود الأفكار السائدة في المجتمعات العربية التي أدت إلى ممارسات سلوكية تسيء للنساء، ولكنها بحثت عن جذور هذه الأفكار وراحت تحفر في التراث وتقرأه وتتفحصه لا بعيون الموتى ولا بروحانية منطوية على الذات، وإنما بعين علمية ثاقبة وبصيرة إنسانية حرة، تهتدي بقيم الحداثة، التي اكتسبتها في جامعات ما زالت تحمل طابع فلسفة الأنوار، داعية إلى تغيير الذهنية العربية الرجعية والأنظمة السلطوية، ومؤكدة في كل أعمالها على قيم التنوير التي تتناغم والقيم ذات الأصول العربية، مثل العقلانية والحق والحرية والعدالة والعلمانية والديمقراطية والتسامح والرحمة والمحبة وغيرها من القيم التي تكفل أوضاعا أنسب وأفضل للإنسان العربي رجلا كان أو امرأة.