تأملتني قبل رحيلها الأبدي، وكأنها تراني لأول مرة، تتفرس في ملامحي، عيناها لا تفارقاني، تتفحصان عن كوامن شجن، يشي بأن لحظة الوداع الأخير قد دنت. ما أقسى أن تودع عزيزاً يوشك الموت أن يخترم حياته! الفقدُ صعب وإن كان حقاً، حاولت عبثاً أن أُبدد صمتاً موجعاً قبل لحظة الاحتضار. لم استطع، فديسةً كانت على امتداد الحياة. رفيقة بالضعفاء، وفية للقيم، نذرت نفسها للخير ما استطاعت. دمعتان سخيتان تسيلان على خديها، تختزلان ما بها من اوجاع. ما أبلغ لغة الدموع لحظة الاحتضار! وفجأة وجدتها تبدد هذا الصمت الموحش بكلمات خافتة تفلسف معنى الحياة.»هذه هي الحياة، جميعنا فيها على سفر، قد يطول وقد يقصر ويوماً ما ينتهي السفر! تُحط الرحال، نعبر الى عالم آخر».
تفر الحياة منا رغم شوقنا في استمرارها! الشوق في فسحة أخرى من الزمن تراودنا حتى الرمق الأخير! هذا «الشوق هو سُنة الحياة».
مرة اخرى حاولت ان أُبدد هواجس الموت، فاخفقت، كم هي مرعبة هواجس الوت! تذكرنا بضجعته! ضجعة الوداع الأخير. هي الدنيا تُذيقنا في البداية أفاويق نستحليها، ثم لا تلبث ان ترمح بنا مُوَلّية!
في شبابنا- وكما يشير أحدهم- «نرى الموت شاباً، وعند الكهولة والشيخوخة نراه شيخاً هرماً. موتان في لحظة واحدة»!
«يطرق الموت علينا الباب، في البداية يكون «الطرق» خفيفاً ثم يشتد، عندها تنطفيء الحياة ويهمد الجسد» ويسدل الستار!
حكمته -سبحانه- انه حجب عن البشر لحظة الموت لتستمر الحياة في العطاء. ما أجل حكمتك يا مالك الحياة! تمنحنا الحياة لتبلونا أيّنا احسن عملاً. ما اعدلك إلهنا!.
يعود الصمت الرهيب، فيخيم من جديد، ثقيل هذا الصمت ها هو شبح الموت يقترب اكثر فأكثر. تفر الحياة من الجسد الذي أضناه الصراع مع المرض، وتفيض الروح. ألهي ما أقس الوداع الأخير.
ذات مرة، قال أحد كبار الفلاسفة وقد احس بدنو الأجل: «الا ليت الموت كان نوماً»! لكن هيهات، الموت فراق ازلي!
مُتع الحياة لا تدوم. اللبيب من يتعظ ويعتبر، فيغادر دنياه راضياً مرضياً تسبقه حسناته الى العالم الآخر حيث النعيم المقيم لمن آمن واتقى. أما من تغريه لذائذه فيستسلم لها فيغادر مثقلاً بالأوزار، قد فاتته كل «الحسنات»!
يحدثنا التراث الإسلامي أن عمرو بن العاص حين احس بدنو الأجل نادى ابنه عبدالله، ودفع اليه صندوقاً مملوءاً ذهباً ليحتفظ به، فرده الأبن قائلاً لا حاجة لي به. عندها -وكما تقول الرواية التاريخية- قال عمرو بن العاص «ليت أنّ ما في هذا الصندوق كان بَعراً يا عبدالله! أراني اشعر كأن السماء قد اطبقت على الأرض وانا بينهما! ثم اردف قائلاً: «اللهم قد عصينا في حياتنا، فاغفر لنا». بعدها فاضت روحه. هي الحياة زائلة لا محالة. العاقل من لا تخدعه ابتسامتها، يعمل لدنياه كأنه يعيش أبداً، ولآخرته كأنه يموت غداً. حكيمُ الحياة من أيقن أنَّ «التقوى» خير ما يُدخر.
طوبى لمن يغادر دنياه تاركاً وراءه الذكر الحسن. يرحل هو، وذكره لا يرحل. طوبى لمن اكرموا الحياة بفضائلهم قبل الرحيل، هم احباء الله وخُلصاؤه. مقامهم في أعلى عليين.
وإنما المرءُ حديثٌ بَعدَه فكن حديثاً حسناً لمن وعى
يمنع الاقتباس او اعادة النشر الا بأذن خطي مسبق من المؤسسة الصحفية الاردنية - الرأي .