قرأت لسلامة موسى في مطلع شبابي اكثر من كتاب، فلم اجد له علو بيان الرافعي ولا حلاوة اسلوب طه حسين، وترسله الجميل، ولا قوة عقل العقاد، وكنت اخرج من قراءته دائما برغبة في مراجعة كتب اخرى في الموضوع الذي يتناوله. كما كنت اعجب من جرأته على التاريخ العربي الاسلامي وعلى اللغة العربية. وحين كنت اضعه في مواجهة محمد حسين هيكل (مثلا) او محمود محمد شاكر او توفيق الحكيم كان لا يبدو لي شيئا مذكورا.
ثم اني قرأت له، في الثلاثينيات من عمري، فوجدتني داخل دائرة انطباعي الاولى عنه، بل لمست من نفسي الرغبة في تفنيد كثير من آرائه.
فلما أُتيح لي قراءة كتابات الرافعي ومحمد محمد حسين ومحمود محمد شاكر المتعلقة بالاتجاهات الفكرية والأدبية المتصارعة في مصر ابان الاستعمار الانجليزي؛ صرت اقرب الى ان افهم تخالف الافكار والمقالات في تلك المرحلة. ولكني لم اقع على كتاب جامع يشفي الغليل ويوزع الكتاب على الخريطة السياسية في مصر آنذاك..
والآن وبعد مرور نصف قرن على اول قراءاتي في اعمال سلامة موسى فان مما اجده اليوم حين اقرأه هو هذا الفهم للرجل ولدوافعه وهذا التساهل في تقييم منجزه، وهذه القدرة على ان اضع نفسي مكانه وهو يدعو الى تغريب الفكر والوعي واللغة اذ كان كأنه - وهو واهم بالقطع - في موضع الدفاع عن النفس، تحت غطاء الاعجاب بحضارة الغرب المستعمر..
لكن هذا كله انما هو «تمثل منهجي» لحالة الرجل أُريد به المزيد من فهمه والاحاطة برواسبه الشعورية، وهو اشبه شيء بالشك المنهجي عند الغزالي او عند تلميذه - على تباعد الازمنة - رينيه ديكارت، غايتي منه الاطمئنان الى يقيني المستقر فيه من حيث هو عقل مأسور للغرب وذائقة مصنوعة على عينه، فضلا عن اثر الانجليز (مستعمري مصر آنذاك وغيرها من الاقطار العربية) فيه وفي غيره من الصحفيين والكتاب واصحاب المجلات.. ناهيك به رأسا لاتجاه يخالف اتجاها آخر في كتاب ورجالات مصر يمثله مكرم عبيد ونظمي لوقا ويوسف كرم وزكريا ابراهيم وآخرون.
على ان لكل مرحلة اوضاعا وحيثيات لا بد من مراعاتها لدى محاكمة المذاهب والاشخاص، ولعلنا ان نكون اليوم في مثل ما كان المصريون عليه ايام سلامة موسى، فلا يذهبن بنا الشطط في التقوييم (والتقييم في ظني اصلح هنا)، ولنرجع ال ما كتبه احد تلامذة ومريدي سلامة موسى في بلادنا، واقصد بذلك الكاتب الراحل محمود سيف الدين الإيراني الذي كتب (في الجزء الثاني من اعماله الادبية الكاملة)، تحت عنوان: «بيني وبين سلامة موسى» يقول إن سلامة موسى اتاه بلوحة مطبوعة وقال له: هذه هي حروفي المقترحة لتحل محل الحروف العربية». وكانت حروفا لاتينية ادخل سلامة موسى على بعضها تعديلات يراها.
يقول محمود سيف الدين الايراني: «وكان يحسب اني سأوافقه من فوري.وقد ذُهل. اذ رددت اللوحة وانكرت مشروعه وقال: «ما اعجب امرك، أليست ثقافتك الغربية خليقة بقبول هذه الحروف التي تريحنا من كل المزعجات والمضايقات ام ان لك رأياً او تعديلا تحب ادخاله عليها؟.
قلت - والكلام لكاتبنا الراحل - بل اني ارفضها شكلا وموضوعا.. وبسبب ثقافتي الغربية بالذات (ولعله يقصد ما اطلع عليه من ثقافة الغرب)، فانا ارى مثلا، ان الحروف العربية شبيهة بالاختزال، ولعلك ترى هذا معي ولكن الاهم ان الحروف التي تدعو اليها ستقلب لغتنا رأسا على عقب، وترمينا بفوضى لا قبل لنا بها، وستشوه تراثنا والعربية لغة أُصول، ولغة بيان، ولغة بلاغة، ولغة تراث ضخم، وقبل هذا كله هي لغة القرآن، اي انها لغة الاعجاز في ابهى صوره واروع معانيه، فكيف نستبدل بها غيرها، لا لسبب الا ان البعض لا يفقهها، ويتعثر بأصولها وقواعدها وصورها البيانية المشرقة؟.
وبعد ان دافع كاتبنا الراحل هذا الدفاع الحار عن لغة القرآن والتراث العربي قال سلامة موسى: ولكنني ادعو فقط الى استبدال حروفها.
يقول الاستاذ الايراني رحمه الله: قلت مقاطعا: وسيستتبع هذا قلب اللغة كلها اصولا وقواعد وضوابط وبيانا وبلاغة وجمالا.
قال سلامة موسى فيما اورد الاستاذ الايراني: أهذا قول من قرأ دستويفسكي وتولستوي ورومان رولان واندريه جدد وويلز وبرناردشو؟
فأجابه مبتسماً: «بل هو (ايضا) قول من كان جده لأبيه شيخا عالما مُعمّماً، وكان جدّه لأُمّه كذلك..».
ولو اراد الاستاذ الايراني لقال إن المسلمين قرأوا افلاطون وارسطو واقليدس وبطليموس، وشرحوا اعمالهم واضافوا اليها، ولم يغيروا حرفا من لغتهم، ولا سعوا مثل هذا السعي في تدمير تراثهم.
ولو اراد لقال له إن دعواك هذه هي الدعوى نفسها التي يتولى كِبرها اللورد كرومر وصنائعه في مصر.
ولكن الاستاذ الايراني آثر الرفق بالرجل، واكتفى بالذي قاله دفاعا عن أُمته ولغتها الشريفة.
وبعد، فأحسبني سأعيد قراءة سلامة موسى قراءة مستغرقة لأعماله - وهي متوافرة - فان بضدها تتميز الأشياء..
* يمنع الاقتباس او اعادة النشر الا بأذن خطي مسبق من المؤسسة الصحفية الاردنية - الرأي .
