حاورته - سميرة عوض - منذ بداياته وهو يذهب باتجاه يكون شاعر التجربة وقد تجلى هذا تماماً في سائر اصدارته التي كان اخرها «سراب المثنى» والذي يرصد لغز الحروف الباحثة عن معنى للوجود، انه الشاعر اللبناني شوقي بزيع الذي يؤمن ان الشعراء هم خير من يدرك سحر اللغة وجاذبيتها، ويرى في الحوار الذي اجرته معه «الرأي» خلال زيارته لعمان للمشاركة في مهرجان جرش (2004)، ان الشعر فن يتم في العتمة، وانه - اي الشعر - ليس في اسوأ حالاته، مشيراً الى سطوة القصيدة الجيدة، وقدرة الشعر الاستثنائي في تغيير ذائقة المتلقي.
ويقول بزيع ان الصحافة لا تقتل الشعر مستشهداً بمشاريع مقالاته التي تحول كثير منها الى قصائد ومنها قصيدته الشهيرة «الاربعون».
ويكشف بزيع عن عشقه للكتاب الاول الذي شهد طفولته وحياته حيث ولد في احدى قرى قضاء صور في الجنوب اللبناني العام 1951 معلناً ان خسارة الاحياء والاماكن تجعل لها ذكريات حميمة، وانه لذلك لا يكتب عن امرأة الا بعد خسارتها فيشيعها بالقصيدة، ويستردها باللغة.
وكان بزيع اصدر احدى عشرة مجموعة شعرية «عناوين سريعة لوطن مقتول»، «الرحيل الى شمس يثرب»، «اغنيات حب على نهر الليطاني»، «وردة الثوم»، «مرنية الغبار»، «كأني غريبك بين النساء»، «قمصان يوسف» ، «شهوات مبكرة»، و«فراديس الوحشة»، واخيراً «سراب المثنى» وقد حصل على العديد من الجوائز اخرها جائزة باشرا حيل للابداع الثقافي في مجال الشعر، حيث رأت لجنة التحكيم وقتها، «ان شعره يتفرد في تخليق الصور والمزج بين حركة الدلالة وتشكيل المتخيل».
وتالياً نص الحوار مع الشاعر شوقي بزيع والذي يكشف فيه انه منذ اكثر من ربع قرن يكتب في مقهى شعبي لا بغيره:
الرأي: الشاعر شوقي بزيع من اصدقاء المهرجانات الاردنية، وفي طليعتها مهرجان جرش للثقافة والفنون، برأيك ماذا تضيف المهرجانات للحركة الشعرية العربية».
- دائماً - مثل كل الامور - تحمل الاشياء وجهين، وغالباً ما يكون الوجهان متعارضين، فالمهرجانات الشعرية تحمل مفارقتها من داخلها ، لان كلمة «مهرجان» لها علاقة بـ«الهرج» و«الهرج» هو الحشد والجماعة، ولها علاقة بـ«التهريج» وهذا اسوأ - من معنى الحشد، فإذا ا خذنا الكلام بحرفيته تكون المحصلة في غير صالح الشعر، خاصة وان الشعر من اكثر الفنون التي تحتاج الى اصغاء، لانه فن يتم في الظلمة الكاملة، ويحتاج الى خلوة بين الشاعر وبين نفسه، على مستوى الكتابة.
وطبعاً هذا لا يمنع بان الشعر يجب ان يصل الى الجمهور، ويصل الى المتلقي عبر وسائل مختلفة، من بينها الالقاء، وكلما انتشر الجمهور افقياً ، ضاقت امكانية الاستماع المنصف ، والعادل - اذا صح التعبير - ويضطر الشاعر الى المساومة، والى ارضاء هذا الحشد المتنوع، ومتعدد المستويات عبر اختيار اسوأ نماذجه، وهذا ما يحدث عادة في المهرجانات، وخاصة في المهرجانات التي تعتمد الاماكن المفتوحة كمنبر للالقاء والتواصل، وهذا يربك العلاقة بين الشاعر والمتلقي، لان عناصر من المرئيات والمشاهدات التي يمكن ان تؤذي الشعر، وتؤذي العلاقة بين الشاعر وجمهوره تتدخل.
وانا اعتقد بان الامسيات الشعرية ، في الاماكن المغلقة قد تكون ، الصيغة الافضل، واعني بها الامسيات المتفردة، لان الشاعر يستطيع ان يختار ما يجده ممثلاً له بشكل حقيقي دون مساومة، ودون ابتزاز من الداخل والخارج ولذلك نرى - مثلاً - عندما يذهب الشاعر الى امسية شعرية منفردة فعلاً يختار افضل قصائده، وعندما يعقد لقاءاً شعرياً في مجلس خاص - اي مع نخبة من الكتاب والشعراء، والمستمعين، ايضاً يبحث عن افضل ما لديه، فامكانية الاصغاء تصبح اكبر، واكثر توفراً.
«جرش» : كرنفال حقيقي
هذا الجانب السلبي من الموضوع، لكن هذا لا يعني بأن نلغي المهرجانات، بالمبدأ - لان مهرجاناً مثل مهرجان جرش، على سبيل المثال، اصبح العنوان البارز والمهم للتعبير عن انفتاح الاردن وعن احتفائه بالثقافة، وعن تحوله الى مساحة للتفاعل بين الناس في داخل الاردن من جهة، وبين الناس في الداخل والخارج من جهة أخرى.
هذا الشهر المتواصل للانشطة على مختلف المستويات، يتحول الى كرنفال حقيقي من الفنون، والانواع الادبية، من الاصغاء ومن التلقي المعرفي، ومن التواصل والتلاقح، فأنا اعتقد ان مثل هذا المهرجان، هو ضمانة حقيقية لتوفير افضل المناخات الثقافية في الاردن وفي غيره، ونحن ندعم هذا المهرجان الذي اشارك فيه شخصياً منذ ثمانية عشر عاماً اي منذ بداياته - تقريباً - ولو اني اتمنى ان لا يكون الشعر ضيفاً ثقيلاً على لمهرجان، وبالتحديد ضيفاً ثقيلاً على الاغاني، وعلى الطرب، دون ان ارفض هذه الانواع او احتج عليها.
لكن يمكن ان تكون هناك امسيات شعرية لشعراء بعينهم، قد تضم شاعراً او شاعرين بتقديري، في الامسية الواحدة، خاصة وان ايام المهرجان عديدة، طبعاً حسناً فعل منظمو المهرجان لهذا العام بأنهم قللوا من عدد الشعراء المشاركين بحيث تفاوت عدد الشعراء في الامسية بين ثلاثة الى خمسة شعراء، ولكن من الممكن ان يكون «العدد» اقل من ذلك ، وان تكون قاعات الالقاء ملائمة ، مثل مركز الحسين الثقافي، او المركز الثقافي الملكي، ويمكن ان يتم تلافي مثل هذه الثغرات في الدورات القادمة.
سطوة القصيدة
الرأي هذا يعني انك ما تزال تؤمن بأن للشعر سطوته في الوطن العربي؟
- هذا سؤال فضفاض بحيث يجب ان نضع كلمة «سطوة» بين هلالين ليس للشعر سطوة بالمعنى المادي الملموس، بقدر ما هناك سطوة للقصيدة الجيدة، وللشعر الاستثنائي الذي يمكن ان يغير في ذائقة المتلقي، وفي حساسيته، وفي التربية الجمالية الجمعية.
وظيفة الشعر
انا من الذين يعتقدون ويؤمنون بأن الشعر ليس في أسوأ حالاته، كما يزعم بعضهم ، وان لم يكن في عصر ازدهاراته الكبرى ايضاً، وهذا امر له علاقة بالظروف الاجتماعية التي تحيط بالشعر، وبالشعراء، وله علاقة بظروف سياسية، واقتصادية تحكم الناس وتضغط عليهم بشكل يومي، وربما تكون وظيفة الشاعر قد تغيرت، باعتبار ان الشاعر لم يعد معنياً بأن يكون وزير الاعلام، والوسيط والمحرض، والداعي، والمبشر.
هناك اجهزة ووسائل ووسائط اعلامية معاصرة يمكن ان تأخذ هذا الدور عن الشاعر الآن، ولحسن الحظ - باعتقادي - ان هذه الوسائل المتعددة التي احدثت ثورة في العالم المعاصر، اعادت الشعر الى حيث يجب ان يكون، اي الى ما هو خفي ومهموس وباطني، والى الاعماق التي على الشعر ان يصدر عنها، والتي يجب ان يتوجه اليها، اي وظيفته في التغيير ، في الحلم بالمستقبل، وخلق حساسية جديدة ، في الايمان بالحياة في مواجهة كل حملات «التأسيس» والضغط على الانسان المعاصر.
فمن حسن حظ الشعر ان تتعرض الايديولوجيا، بمختلف مستوياتها ، الى انتكاسات في نهايات القرن الماضي، وان تعيد الشاعر الى قصيدته بعيداً عن التوظيف، وبعيداً عن الاستثمار، وبعيداً عن الضغوط التي تتحول الى الزامات قسرية للشعراء ، وليس الى التزامات وخيارات طوعية.
الصحافة والشعر
الرأي: انت تكتب المقالة الصحفية بشكل دوري ، فهل تنداح مقالتك الصحفية لصالح الشاعر فيك، ام ينداح الشاعر فيك لصالح «الصحفي».
في البداية كنت من الذين يعتقدون بأن الصحافة تقتل الشعر، وتقتل الابداع بوجه عام، باعتبار ان الشاعر يمكن ان يهدر هذه الطاقة الحية الموجودة في داخله عبر اسقاطات نثرية متعددة، قد تسقط من خلالها الكثير من عناصر الضغط التي تعصف بالشاعر ، والتي يمكن ان تجهض مشروع القصيدة.
ولكن فيما بعد تأكد لي ان هذا الاعتقاد غير صحيح، لأنني رأيت بأن العمل الصحفي، وخاصة في المجال الثقافي، يتحول الى تمرين على الكتابة، اي ان الشاعر هنا ، يغني لغته ويثريها، ويقحمها في مجالات معرفية متعددة، يمكن للشعر ان يستفيد منها الى ابعد الحدود.
وقد حدث - بالنسبة لي - ان الكثير من مشاريع المقالات والاعمدة والزوايا تطورت - فيما بعد - الى قصائد. اي انني وجدت بأن هذه «اللقية» الفكرية التي تأتي كخاطرة بارقة في غفلة من الزمن، بناءً على الحاح المقال الاسبوعي - مثلاً - تتحول فيما بعد الى سؤال عميق، يترجم نسفه عبر النص الشعري، هذا ما حدث في قصائد مثل: «تعديل طفيف»، و«غير قانون النهر» و«قمصان يوسف» ، وقصائد اصبحت معروفة لي في العالم العربي فيما بعد.
الشاعر... ناثر مجيد
لذلك ينبغي ان لا ننظر للامور من زاوية واحدة خاصة وان على الشاعر فيما هو يكتب النثر ان لا ينسى دوره كشاعر، اي يقلل الى حد بعيد من تنازلاته، ومن مساوماته على اللغة، وهنا اريد ان اقول بأن كل شاعر حقيقي هو ناثر حقيقي، وإن محك الشاعر نثره - اذا ما التبس الامر على قرائه.
تقليم اظافر اللغة
الرأي: في سياق متصل ووفق هذا الفهم للعلاقة بين الشاعر والناثر هل يفكر الشاعر شوقي بزيع بكتابة سيرة شعرية او رواية مثلاً؟
- هذا السؤال يطرح عليّ باستمرار، خاصة وان مزاولتي للنثر، قد لفتت الكثير من النقاد، ومن الاصدقاء الى انني اكتب النثر بروح شعرية ، وبنفس شاعري، دون ان يتخلى هذا النثر عن عمقه المعرفي، لاننا هنا يجب ان نميز بين النثر العميق الثري، وبين النثر العادي، فهناك من يطالبني دائماً بكتابة الرواية - عى سبيل المثال - ويوسم بي خيراً في هذا السياق.
ولكن رغم شغفي بالنثر، وهو شغف متولد عن احساسي بأن النثر يتيح امامي مجالات واسعة في اللغة، وبأنني احس بأن القاموس العربي طوع يدي، وانني لست معنياً بتقليم اظافر اللغة، وزجرها امام مستلزمات الكتابة الشعرية، التفعيلية على وجه الخصوص ... ورغم ذلك كله يجب ان نميز بين هذا الفرع من النثر الذي هو جزء من فن المقالة الادبية او الفكرية او الخاطرة، وبين الراوية التي لا تشكل المادة اللغوية الا جزءاً منها، بما ان اجزاء اخرى منها تتعلق بنظام السرد، وبخلق السرديات وببناء الخلفية المكانية والزمانية التي يمكن ان تشكل عملاً روائياً مميزاً.
اقرأ الرواية بشغف
واعتقد - ان الشعراء - بوجه عام ليست لديهم القدرة على الصبر، وعلى الجلد، التي تتوفر للروائيين صحيح ان الشعراء يستمتعون بالرواية، وانا من الذين يقرأون الرواية بشكل غير عادي ، وايضاً كتبت عن روايات كثيرة ، ولكن من الآن لا اشعر بأن لدي القدرة على الاحتمال والصبر اللذين تتطلبهما الرواية.
قصائد مكانية
الرأي: لكن قصائدك - ومنها «الاربعون» ، «قمصان يوسف»، ليلة ديك الجن الاخيرة» وغيرها، تحمل نفساً قصصياً وروائياً... فيها بداية للحكاية ووسط وخاتمة.
- هذا صحيح وهذه ميزة لا تتعلق بي وحدي، بل بالعديد من الشعراء، حيث لاحظ بعض النقاد، وكتاب الصفحات الثقافية ، ان هناك طغياناً لما يسمى بـ« السردية» والجو الحكائي، او القصصي، في القصائد، واعتقد ان هذه المسألة ليست سلبية بحد ذاتها، طالما كانت تستخدم سلبية بشكل سلبي على القصائد.
فحينما كان يقال ان «فلاناً شعره سردي، فهذا يعني انه شعر تقريري سيال ليس فيه عنصر التكثيف ، ولكن الحقيقة خلاف ذلك تماماً. لأن السردية في الشعر يتم توظيفها بشكل مختلف، انها جزء من بناء القصيدة نفسها، اي انها ذلك الخيط السردي المتواري، وغير المباشرة الذي يربط اجزاء القصيدة ويجمع عناصرها، بحيث لا تتحول القصيدة الى جمل وقصاصات متناثرة، اي انه يمنع القصيدة من التحلل، ومن التبعثر وبهذا المعنى - اذا اردت - لنقرأ معظم شعراً العالم الكبار، لنلاحظ عند تتبعنا لهم بان في اشعارهم شيئاً من السردية، لنقرأ مثلاً بابلونيردوا، لوركا وغيرهما سنرى دائماً قصائد تشبه القصص الصغيرة، هي لوحات حكائية وقصصية واضحة تماماً، لكن المشكلة تكمن في حجم قامات الشعراء، بمعنى ان هذه السردية التي تتخفف عادة من الصور الى ابعد الحدود ، ينبغي ان تحول القصيدة برمتها الى مجاز اي ان «ريتسوس» حين كان يكتب قصيدته كان يعمد على التقشف الصوري، وخاصة عبر القفلة او البيت الاخير، ا ما سماه العرب «بيت القصيد» نرى ان هناك انقلاباً كاملاً في نهاية القصيدة يشبه الضربة الخاطفة التي تقلب النثر الى شعر، والتي تطرح امامنا سؤالاً مفاجئا ومدهشاً حول جدوى الكتابة الشعرية. فإذا لم تتوفر هذه العناصر ساعتئذ تصبح السردية نثرية جافة وعادية.
طقوسي في الكتابة
الرأي: لنتعرف على طقوسك... حين تأتي القصيدة
للاسف لست من الشعراء الذين لديهم حظ جيد في الكتابة، بمعنى انني لا استطيع ان اكتب القصيدة الا في ظروف خاصة وصعبة، على المستويين الزماني والمكاني.
ثمة شعراً يكتبون في المطارات ، يكتبون في الفنادق ، في الطائرات ، في اي مكان، بمجرد ان يروا ورقة بيضاً وقلماً فهم قادرون على الكتابة، اذا كان لديهم وقتها - ما يكتبونه - لكن انا لا اكتب منذ مطالع صباي الا في مكان واحد، هو مقهى شعبي على شاطئ بيروت «الروشة» لا يرتاده المثقفون ، اسمه «مقهى دبيبو» ، ويرتاد المقهى الناس البسطاء، يتناولون النراجيل - ولا يجلس فيه اي من المثقفين، لانه اذا جلس المثقفون من حولي لا استطيع التركيز، احس بأنني مخترق بنظراته، وبأنني غير قادر على ان اختلي بنفسي لا ا كتب في البيت على الاطلاق، على الاطلاق، ولا اكتب في الليل على الاطلاق، اكتب في الصباح وفي المساء غالباً، اي عند مفارق الليل والنهار، كأن هذين الزمانين - على وجه التحديد - يشكلان بالنسبة لي البعد الرمزي لالتباس القصيدة
اما حين اغوص في الليل فلا اعود قادراً على التركيز ، اكتب على طاولة بعينها، ولا يمكن تغييرها، حتى اذا كان هناك من يجلس على الطاولة - طاولتي في المقهى اما ان اغادر المقهى ، او انتظر حتى تفرغ الطاولة من شاغليها.
عاظق للمكان الاول
الرأي: لعل فيما قلت دلالة كبرى على اهمية المكان، وارتباط الشعر به فما اهمية الاماكن لك خصوصاً المكان الاول في الجنوب اللبناني ومكان الاقامة بيروت؟
-انا من مواليد برج الجدي، وربما يكون لهذا البرج صلة بعلاقتي المرضية بالاماكن، لانه برج ترابي، فاحس دائما بوطأة هذا الامر بالنسبة لي، اي حضور مسقط الرأس، وحضور القرية التي انتمي اليها، ومسرح الطفولة، والمسرح الاوسع، الذي هو الجنوب اللبناني، ولو انني لا اميل كثيرا الى التصنيفات الجهوية او الايديولوجية في الشعر، ولكن عندما اكتب اتصل مباشرة بذلك المسرح المختلط الذي تتضافر في صنعه مياه واشجار و نباتات وكائنات مرئية وغير مرئية، لتشكل دائما مادة القصيدة وخلفيتها، حتى لو كتبت عن موضوعات ذات طابع وجودي، او مصيري او تتصل بالكينونة والحياة والموت والغربة والحب والرضى وما سوى ذلك.
اشعر بان النسيج اللغوي مستمد من تلك الخلفية الهائلة من العناصر التي شكلتها الطفولة بالنسبة لي، وانا اشعر انه ليست هناك من شعرية حقيقية دون طفولة حقيقية وغنية، والغريب انني اقيم منذ اكثر من ربع قرن في بيروت، المدينة التي احب رغم كل مكابداتها، ورغم انني عشت معظم فترة الحرب الاهلية اللبنانية وخاصة حصار بيروت عام 1982 الا ان شعري كان يتغذى من اماكن اخرى، يشكلها، او تتشكل في الريف الذي غادرته في صباي، كأن الاماكن التي تخسرها تتحول بحد ذاتها الى اماكن اقامة بديلة لانه لا بد من خسارة الاشياء حتى نستبعدها عبر اللغة.
فانا مثلا لو كنت مقيما بالجنوب لما كتبت عنه، وسبق ان قلت ان هناك مفارقة غريبة، تتمثل في ان الذين كتبوا عن حصار بيروت، كلهم من غير اللبنانيين، قرأنا كتابات كثيرة لاصدقاء عاشوا بيننا، مثل: محمود درويش، رشاد ابو شاور، زياد عبدالفتاح، حلمي سالم، شاكر اللعيبي، سعدي يوسف، ولكن نادرا ما قرأنا عملا شعريا، او حتى سرديا عن حصار بيروت مثلا، والسبب هو اننا ما نزال مقيمين في هذا الحصار لمدينة قدر لها الا تنجز، وان تدافع دائما عن حضورها.
استرد المرأة باللغة
الرأي: هذا عن الاماكن، فماذا عن المرأة؟
- وهذا الامر ينسحب على المرأة ايضا، فانا لم اكتب عن اي امرأة الا بعد خسارتها، بعد ان تذهب كأنني بالقصيدة اشيعها الى حديث تذهب من جهة، واستردها الى اللغة من جهة اخرى.
مأمور اخراج
الرأي: لكنك تظل ابن الجنوب اللبناني، ابن الريف.. فما الذي تركه في الطفل شوقي بزيع، هل كنت ترى الى انك ستكون «الشاعر شوقي بزيغ» ام كانت هنالك احلام طفولة اخرى لم تتحقق؟
- هنالك فارق بين ان اشعر باعراض الشعر التي انتابتني بشكل مبكر، منذ السابعة او الثامنة من عمري، واحسست بان القدر يهيء لي شيئا ما على هذا الصعيد، على صعيد الكتابة الشعرية، وبين ان احلم كانسان بالاحلام العادية التي تنتاب معظم الناس.
على سبيل الدعابة اذكر منذ طفولتي بان رجالا طوال القامات، وفيهم الكثير من القوة والجسارة كانوا يمتطون الخيول، ويحملون البنادق، ويأتون الى القرية، كانوا يبحثون عن بعض اهالي القرية الذين يقتطعون اشجار السنديان كي يحولوها الى فحم، وانا من قرية جنوبي لبنان محاطة بالغابات الكثيفة، مثل هؤلاء بالنسبة لي، شكل القوة، وشكل الجسارة والسلطة، فكنت دائما اطمح بان اكون واحدا منهم وعلمت فيما انهم كانوا يسمون مأموري الاحراج، بمعنى ان وظيفتهم كانت المحافظة على الغابات، فكنت احلم بان اكون مأمورا للاحراج اي حارسا للغابات من قبل الدولة، وهذا الحلم اصبح مضحكا فيما بعد.
مهنتي: مدرس .. ولكن!
طبعا مهنتي «مدرس» وما ازال حتى الان ادرس للمرحلة الثانوية، عملت في الصحافة، ولكنني سرعان ما ضجرت من الصحافة اليومية، فبعد ان كنت مسؤولا عن الصفحة الثقافية في جريدة «السفير» في مقتبل التسعينات استقلت منها، ايضا استقلت من التعليم لانني لا استطيع ان انتمي لاية مؤسسة، وما ازال اشعر بانني منذور للشعر وان الحياة لا تحتمل اي مشروع اخر مواز للشعر، الا ما يتطلبه الحفاظ على العيش.
لعنة القصائد!
الرأي: يقال بان بعض القصائد تعد لغة جميلة تطارد الشاعر، يطالبه بها جمهوره اينما ذهب في امسياته ما هي قصيدتك اللغة الجميلة؟
- في الواقع هذه مسألة اشكالية يعيشها معظم الشعراء، في انهم يختبرون - في البداية - بعض القصائد، فيرمونها على الجمهور، لكي يكتشفوا مدى ملاءمتها للذوق العام، من القصائد ما تخطىء هدفها، ومنها ما تصيب.
والشاعر طبعا، يلتقط دائما هذه القصائد التي تحقق اصابات عبر ارتطامها بالمتلقي، ويشعر بالامان عند القائها، لانه سبق له وجربها من قبل، فغالبا ما يرددها باستمراره وهذا الشيء لا استثني نفسي منه، فانا اشعر اننا متواطىء مع قصائد ضد اخرى< كما يفعل شعراء اخرون.
مثلا، هنا قصائد في مهرجان جرش سبق وان القيتها، وشعرت بمدى استجابة الجمهور لها، فانا دائما احس بصراع بين ان القيها ثانية، واتحمل تبعات القول ان هذا الشاعر يكرر قصائده، وبين ان اجازف بقصائد جديدة، وطبعا لا اضمن العاقبة.
طبعا من القصائد التي شعرت انها تنال استحسانا «مرثية الغبار» وعلى وجه التحديد، «قصيدة حوار مع ديك الجن الحمصي»، «الاربعون»، «قمصان يوسف»، «مريم» لكن حاولت في مشاركتي بالدورة الاخيرة للمهرجان ان اقرأ قصائد لم اقدمها من قبل، وهذا اذكر طبعا ان الشعراء الكبار ومنهم ادونيس، يلقي بشكل دائم القصائد نفسها، مثل: «مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف، او«الوقت» او بعض القصائد التي يستعيدها باستمرار لمعرفته ان هذه القصائد جماهيرية اكثر من غيرها.
«سراب المثنى»
الرأي: ما هو جديدك، وهل من اصدارات تنتظر بعد اصدارك «سراب المثنى» عن دار الاداب؟
- مجموعتي الاخيرة «سراب المثنى» كانت صدرت قبل عام ونصف، وحاولت في هذه المجموعة التي هي ا لحادية عشرة بالنسبة لي، ان اقرأ اللغة بما هي مضمون نفسها، اي ان اقرأ العلاقة بين الشكل والمضمون، باعتبار الشكل نفسه مضمونا، وهو موضوع قد يكون من اختصاص علماء اللغة، وفقهائها، ولكن اعتقد وازعم ان خير من يدرك سحر اللغة، وجاذبيتها الحقيقية، هم الشعراء، وهم الذين يغيرون لغاتهم في الاصل.
فانا حاولت في «سراب المثنى» ان اقول ان الشكل قد يفرض مضمونه احيانا، واعطيت امثلة على ذلك، وكمثال تحدثت من صرخة امرىء ا لقيس في نداء المثنى، وقلت بانه عندما قال:«قفا نبك» ربما لم يكن هناك شخصان حقيقان، ربما استمرأ هذا الصدى الجميل الذي يخلقه المثنى، او الالف المحدودة وما يخلقه انسيابها مع الصحراء العربية، و لكن صيغة التشنية خلقت مضمونها العاطفي، بمعنى انه عندما صرخ امرؤ القيس «قفا نبك»، تحولت صحراء العرب من بعده الى غابة من الثنائيات العاشقة، كأن الثنائيات التي جاءت فيما بعد «جميل بثينة»، «كثير عزة» جزء من صرخته.
كما كتبت عن ثنائية الحرف المعتل: الألف والواو والياء، بما تشكل هذه الاحرف من استدعاء لاشكال معينة من القول الشعري، فيها انحناءات عاطفية، فيها امتدادات، فيها نداء لمخلص غائب، وعلى سبيل المثال عندما اختار المتنبي في ذهابه الى كافور قصيرة «كفى بك داء ان ترى الموت شافيا»، فكأنه - وبدون ان يدري - ربما - اختار هذه الياء والألف الممدودتين وكأنه ينادي مخلصا غائبا، لانه يذهب الى قدر مأساوي، وكذلك فعل مالك بن الريب في اختيار لقصيدته «اليائية» المشهورة، بعد اصابته بلدغة الافعى فمن خلال «الياء» كان كأنه يتحسر على مصيره، ويستغيث باحد ما.