أ.د. عبدالله الكيلاني - أخرج البخاري، ومسلم من حديث حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه، قال : « كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الخير، وكنت أسأله عن الشر؛ مخافة أن يدركني، فقلت: يا رسول الله ، إنا كنا أهل جاهلية وشر فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم، وفيه دخن ، قلت : وما دخنة ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر قلت : وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : هم من جلدتنا ، ويتكلمون بألسنتنا. قلت : ما تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال: تلزم جماعة المسلمين ، وإمامهم . قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام. قال : فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك» . الحديث الشريف من أجمع ما ورد في موضوع الفتن. وقد أشار الحديث إلى حالتين من الانحراف عن النهج الشرعي. الحالة الأولى : وهي حدوث شيء من الانحراف بين أفراد المجتمع، وهو المعبر عنه بالخير الذي فيه دخن، فهو توجه إلى الإصلاح ، لكنه لن يكون صورة طبق الأصل عن منهج النبوة، ومنهم الخلفاء الراشدين، لكنه في جملته توجه إلى الخير، على الرغم من وجود أخطاء في المسيرة، أو شيء من الاعوجاج . ما هو الدخن الذي يصيب التوجه إلى الخير ؟ الدخن لغــة : الكدورة إلى السواد. وقد فسر بعض أئمة اللغة كأبي عبيد بأنه : تعبير عن حال القلوب في المجتمع حيث تكون القلوب هكذا وهكذا ، لا يصفو بعضها لبعض، ولا ينصع حبها. ومن الخير الذي عبر عنه الحديث : اتساع الفتوحات، والدفاع عن السيادة الداخلية ، والخارجية، للدولة التي تمنع العدوان عن نفسها، غير أن دخنه، في سوء استغلال المال العام، وما كان يصيب الأمة من المظالم ، وسفك الدماء ، بسبب المذهب والمعتقد ، ومن الخير في المجتمع العربي المعاصر: وجود مؤسسة الشورى، ودخنة عجز أهل الشورى عن حماية مصالح الأمة . هذا ومن الخير إبراز الثقافة العربية الإسلامية هوية للأمة مسلمها ونصرانيها عبر مشروع إحياء مقامات الصحابة، في المملكة الأردني الهاشمية مثلاً ، وعبر المؤسسات الفكرية ذات البعد الحضاري، ودخنه القفز عن الثقافة الإسلامية وعن فكر الصحابة : إعلامياً ، وفنياً. ومن الدخن : المظالم التي تصيب الأمة من قبل مؤسسات وضعت لحفظ أمن الدولة ، وهذا أقبح أنواع الظلم، وإن من الخير الذي يمحو هذا الدخن أن نجد في مؤسسات القضاء ما ينقض الظلم من القواعد . ويظهر أن حال المسلمين عبر تاريخهم بقي ردحاً من الزمن كما استشرف الرسول الكريم : ما بين الخير ودخن ، يغلب هذا ، أو يغلب ذلك . وكان للعلماء من هذا الدخن موقف نجليه في بحث تالٍ إن شاء الله تعالى . الحالة الثانية : الشر الذي يظهر فيه دعاة إلى أبواب جهنم : ما هو هذا الشر؟ وهذه المسألة من الخطورة بمكان، بتحديد ما المقصود بهذا الشر، وهل يعني هذا الحديث رفض الاختلافات الفكرية، والاجتهادية ؟ إن أقوال الشراح في تفسير هذا «الشر» أخذت اتجاهاً ينتهي إلى العجز عن استيعاب الافكار الأخرى، والبرامج الأخرى المغايرة لفكرهم ، واتجاههم ، بما يؤدي إلى انغلاق كل صاحب فكر على نفسه، وهذه الحالة بحد ذاتها من أنواع الشر الذي أشار له الحديث في القسم الأول . فإن عدم صفاء القلوب لبعضهم ، وعدم نصاعة حبها هو الدخن كما فسره أئمة اللغة . ومن هذه الأقوال قول ابن حجر: « والدعاة على أبواب جهنم من قام في طلب الملك من الخوارج وغيرهم « . والأفكار السياسية الاجتهادية التي تخالف الاتجاه المذهبي لدى عامة المذاهب لا يقال بأنها مرفوضة، وأن أصحابها دعاة إلى أبواب جهنم ما لم تصل هذه الأفكار إلى الخروج عن الثوابت العقدية التي بحثها علماء العقيدة في نواقض التوحيد. ومن ذلك دعاوى الردة والنبوة التي ظهرت في عهد مبكر كدعوة مسيلمة الكذاب والأسود العنسي. ومنها فرق القرامطة التي ادعت ألوهية البشر. ومنها في العصر الحديث : البابية والقاديانية، والبهائية ، ولكل واحد من هذه الفرق كتب غير القرآن الكريم، ونبي غير محمد – صلى الله عليه وسلم- والضابط العام لهذا المعيار: إنكار معلوم من الدين بالضرورة، وما ذكر في نواقض التوحيد، فالتعددية الفكرية مقبولة ، شريطة أن لا تخرج عن الإطار العام لعقيدة الأمة ، وثقافتها.
خير فيه دخن .. ودعاة على أبواب جهنم
12:00 10-7-2015
آخر تعديل :
الجمعة