تمر هذه الأيام الذكرى الثالثة على رحيل الباحث والمفكر العربي الكبير أ.د. محمد جواد رضا. في ذكراك ايها الصديق نفتقد مفكراً ناضل بالقلم من اجل ان تسود العدالة في عالمه العربي المثخن بالف جراح وجراح. كانت لكم رؤية ثاقبة في بنية الحياة العربية. «فالاخرق» بمعزل عن العدل لا قيمة لها! ستظل عارية بلا حماية!
أكدّتم في كل دراساتكم وحواراتكم عبر السنين على قيم التسامح والمساواة والعقلانية، إيماناً منكم بأنها القادرة على مواجهة المشاكل الاجتماعية. وقفتم بصلابة في وجه الطائفية والمذهبية مؤكدين على قيم المجتمع المدني. «إنّ قيمة الانسان في عمله وليس في نسبه او مكانته الاجتماعية».
في كتاباتكم ومؤلفاتكم تعظيم لقيمة النفس البشرية. هذه النفس التي نراها اليوم تُهان في عالم اليوم. ناضلتم في حياتكم من اجل ان تسود «حرية الاعتقاد». لا يجوز ان تستباح هذه الحرية او يُنال من حرمتها، او تُصادر!
آمنتم بضرورة إقرار التعددية في المعتقدات والآراء والتعبير عنها، في زمن تتم فيه –مع الاسف- محاربة هذه «التعددية» او الالتفاف عليها. أما النهج العقلاني فظل نهجكم على امتداد حياتكم. ففي رأيك فإن «العقلانية» هي النهج السليم من أجل فهم الكون والبشر.
دعوتم الى ما اسميتموه بِ»التطهُّر» في تعزيز «الذات» العربية ونقدها. استمسكتم دوماً بِ»الهوية الكبرى» التي تستوعب كل الهويات الصغرى. كنتم تقولون دوماً ان لكل شعب في كل عصر تاريخين: تاريخ مكتوب كتابة «توقيفية» لانه وقع وثبت، وتاريخ مايزال يكتب بمعنى انه ما يزال يصنع» (كتاب استعادة الذات الوطنية، د. محمد جواد رضا، ص 15).
وفيما يتعلق بِ»صناعة التاريخ» لكم وجهة نظر قمينة بالاحترام. «صناعة التاريخ» اذا صُرفت الى الماضي كانت تزويراً، اما اذا أريد بها اختراع المستقبل فإنها تكون اختباراً في الابداع الحضاري» (المرجع السابق، ص 15).
اقول هنا، متى نقارب لحظة الاختبار هذه؟ متى نقاربها والكثيرون منا يخاصمون هويتهم العربية؟
عاب د. جواد رضا على امته العربية والإسلامية ما تعيشه من «سكونية تاريخية» تتعارض وديناميكية التاريخ الإنساني العام «التي تجعل العالم كله في حالة ولادة دائمة او كما يقول الشاعر الأمريكي المناهض للعبودية هنري ثورو: «إننا لا نزال نولد،
ونحن لا نملك،
الا رؤية ناقصة عن الأشياء».
لن نخرج من «سكونية التاريخ» الا اذا امتلكنا العزم والإرادة، وأدركنا اين الاتجاه السليم. متى نخرج من «الضبابية»؟ «الخروج من سكونية التاريخ» لا تتم بالأمنيات وأحلام اليقظة بل بالفعل والإصرار. تتم بإعمال «العقلانية» وتخطيط المستقبل ورفع الانتاجية وتحقيق المساواة في الفرص الاجتماعية والاقتصادية وتعزيز التلاحم الوطني والديمقراطية السياسية والانضباط الاجتماعي. بغير ذلك لن نخرج من «السكونية»!
آمن هذا المفكر بان تزوير المفاهيم» لا تخدم الاهداف النبيلة لصانعي التاريخ الانساني، إنه يلتف عليها. إن العبث بالتاريخ –اي تاريخ- هو عبث بالكرامة الإنسانية للشعوب، ومنها الشعوب العربية والإسلامية. هناك اليوم «اوليغاركية» عربية جاهلية حذّر الراحل جواد رضا من تناميها عربياً، لأن عودتها الى المسرح السياسي –كما رأى- تعني اغتيال النبل الإنساني للحياة الكريمة. تعني الذهاب للمجهول!
«إننا ندمر براءة الناشئة» حين نزوّر حقائق التاريخ لتمرير الاستبداد والطغيان. لا يجوز افساد العقول وتضليلها بتزوير حقائق التاريخ. لا يجوز العبث بها!
آمن هذا المفكر بأن اللغة والدين والقيم تمثل تراكمات حياتية وتجارب تطوّرية قابلة للتجدد «ولكنها غير قابلة للبتر ولا للإلغاء». مع الاسف لم نلتزم بهذا المنطق.
في كتاباته دعا الى استحضار خطاب ديني مستنير يدخل الى المناهج الدراسية ويتبناه أيضاً علماء الدين وائمة المساجد. وكما يرى فإن مثل هذا الخطاب الديني المستنير يرفع من سوية الوعي الجماهيري ويحميه من الانغلاق.
اكد –رحمه الله- على تفعيل (تربية المواطنة)، وهذا لن يتم دون اقصاء الطائفية والمذهبية والعنصرية من اوطاننا العربية والاسلامية. وفي هذا الصدد نقرأ قوله: «الدعوة الى تربية المواطنة تظل قاصرة وكسيحة مالم تُسيج بسياج حصين من (تربية الحوار وثقافة التواصل) التي تجعل تبادل الآراء واحترام الرأي الآخر الوسيلة الى فهم مشاكل مجتمعاتنا والتماس الحلول لها». اتساءل: أيننا من هذا!
رحم الله د. محمد جواد رضا، فقد كان داعية سلام يكره «الحدِّية» في سلوكنا الاجتماعي العربي مطالباً بتسييد «المرونة» والتسليم للزمن بحقه في توضح الرؤية او تنضيج الحلول.
كان مناهضاً لسياسة «البعد الواحد» في ثقافة الحوار، لان ذلك مناف للديمقراطية. سياسة «البعد الواحد» اربكتنا كعرب ومسلمين. فاقمت من مشاكلنا. «الحدِّية» في التعامل لا تخدم اي هدف قومي نبيل. امم غيرنا لا تعرف هذه «الحدِّية». من هنا نراها تبدع وتبتكر فيما بقينا نحن نتحدث فقط عن الماضي دون ان نتطلع الى المستقبل «إن الاشياء عندنا إما خطأ واما صواب، ولا مكان لمنزلة بين المنزلتين»
«إن ظاهرة البُعد الواحد كسلوك جماعي جعلتنا مجتمعاً لا يستطيع افراده التواصل فكرياً فشاعت بينهم القطيعة وتعذر شيوع البحث عن الحلول الوسط لمواجهة أزمات المجتمع ومشكلاته». (د. محمد جواد رضا).
«الحلول الوسط» التي يطالب هذا المفكر لا يمكن الحصول عليها دون تفاهم واحترام لوجهة النظر الأخرى. الحلول الوسط هي التي تقرّب البشر بعضهم الى بعض. اما الحلول التي لا يتسع صدرها لهذه الوسطية فمصيرها الفشل والانزواء.
