- -

حديث خرافة عند العرب

حديث خرافة عند العرب

محمد محمود البشتاويثَمَّةَ طقوسٌ ماديةٌ وثقافيةٌ ما تزالُ دارجةً في الحياةِ العربيةِ إلى اليومِ، رغم أنها تعودُ في جذورها إلى تاريخ العرب ما قبل الإسلام، وإن كانت دَرَجَةُ التعلّقِ بها تتباينُ من دولةٍ إلى أخرى، وتختلفُ في بعض تفاصيلها، إلا أن هنالك قواسمَ مشتركة، وجذراً تعود إليه الحكاية؛ فمن أين جاءت التمائم المعلّقة على الأبواب بأعينٍ زرقاء؟ وما أصلُ حكاية السعلاة المُنتشرة في بعض الدول العربية؟ وأكثرُ من ذلك؛ من أينَ جاءت كلمةُ خرافة، وما قصَّتها؟حديثُ خرافةيُرجع الزبيدي في «تاج العروس»(1) الخرافة(2) إلى قصَّةٍ اشتُقَّ منها الاسم، إذ إن رجلاً من عذرة، كما في الصحاح، أو من جهينة، كما عند ابن الكلبي،اسمه خرافة، استهوته الجن واختطفته، ثم رجع إلى قومه، فكان يحدّث بما رأى أحاديث يُعجب منها الناس، فكذبوه، فجرى على ألسن الناس وقالوا: «حديث خرافة».وفي ذلك قال المثل القديم: «أكذبُ من خرافة». وجاء في «لسان العرب» لابن منظور أن «الخَرَف بالتحريك: فسادُ العقل من الكبر. وقد خَرِف الرجل بالكسر يخرف خرفاً فهو خرف: فسد عقله من الكبر، والأنثى خرفة»(3)، وقال أيضاً: «الخُرافة الحديثُ الـمُسْتَمْلَحُ من الكذِب»(4). و»سمَّى الحريري الكذب خرافة، فقال في المقامة الرابعة: فأعجبوا بخرافته وتعوذوا من آفته»(5).ويربط المسعودي في «مروج الذهب»(6) كتاب «ألف ليلة وليلة» وما شابهه بالخرافاتِ قائلاً: «كتاب ألف ليلة وليلة؛ وقد ذكر كثير من الناس ممّن له معرفة بأخبارهم أن هذه أخبار موضوعة من خرافات مصنوعة، نظمها مَن تقرب للملوك بروايتها، وصال على أهل عصره بحفظها والمذاكرة بها، وأن سبيلها الكتب المنقولة إلينا والمترجمة لنا من الفارسية والهندية والرومية، وسبيل تأليفها من ما ذكرنا مثل كتاب هزار أفسانة، وتفسير ذلك من الفارسية إلى العربية ألف خرافة، والخرافة بالفارسية يقال لها أفسانة، والناس يسمون هذا الكتاب ألف ليلة وليلة، وهو خبر الملك والوزير وابنه وجاريتها وهما شيرزاد ودينا زاد، ومثل كتاب فرزة وسيماس وما فيه من أخبار ملوك الهند والوزراء، ومثل كتاب السندباد، وغيرها من الكتب في هذا المعنى». ويصادف خلال القراءةِ إن أرادَ أخباريٌّ، أو محققٌ، أو ناقلٌ لأمرٍ ما، أن يُكذب ما جاء فيه، أن يقول عنه خرافة، وخرافات، كما جاء عند ابن خلدون(7)، حين عدّ ما روي من قصة سابور، ملك فارس الذي تنكّر ودخل إلى أرض الروم، فأمسك به الملك «مقسيمانوس»، فخبَّأهُ داخل جلدِ بقرةٍ، وأخذهُ إلى أرض فارس، ففر منه، ثم في النهاية تمكن من هزيمة الروم.. بأحاديث خرافة.وفي حال المبالغة، ضربت العرب مثلاً فقالت: «من رابع المستحيلات»، إذ إن هنالك ثلاثة مستحيلات نفت وجودها العرب، ورأت في حكيها وتداولها مبالغةً خارجة عن المألوف. قال ابنتغريبردي: «أَيقنتُأنَّ المستحيل ثلاثة:الغولُ والعنقاءُ والخِلُّ الوفي(8).فمَن جاء بأمر مستحيلٍ حدوثُه، أو تحقيقهُ رُدَّ عليه بجزمٍ وتأكيد «من رابعِ المستحيلات».خرافات تأبَّطَ شرّاً مع الغولارتبطت المستحيلات الثلاثة عند العرب ببعض الشخصيات في تاريخهم قبل الإسلام وبعده، ومن بين هؤلاء أحد الشعراء البارزين في مجتمع الصعاليك، وهو تأبَّطَ شرّاً.يذكر ابن حمدون(9) في تذكرته أن تأبط شراً «كان عَجباً، وهو من العدائين الفتاك الشجعان، وكان يسبق الخيل عدْواً على رجليه هو والشنفرى الأزدي وعمرو بن براق، وله أخبار تبعد عن الصحة. وهو ثابت بن جابر بن سفيان بن عدي بن كعب بن حرب بن شيم بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن غيلان».ويذكر الأصفهاني (10) في «الأغاني» أن «أمه امرأة يقال لها أميمة من بني القين، بطن من فهم، ولدت خمسة نفر؛ تأبط شراً، وريش بلغب، وريش نسر، وكعب جدر، ولا بواكي له، وقيل إنها ولدت سادساً اسمه عمرو».ويقول الصغاني في «العباب الزاخر» (11): «ولُقِّبَ تأبطَ شرّاً لأنهكان لا يفارقه السيف، وقال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني: لُقِّبَ بذلك لأن أمه رأته وقد وضع جفير سهامه تحت إبطه وأخذ القوس فقالت: تأبطتَّ شرّاً». وفي العودة إلى الأصفهاني فإنه يذكر طيفاً من أخبار تأبط شراً، موضحاً أن هذا «لَقب لُقب به، ذكر الرواة أنه كان رأى كبشاً في الصحراء فاحتمله تحت إبطه، فجعل يبول عليه طول طريقه، فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش، فلم يقله، فرمى به فإذا هو الغول، فقال له قومه: ما تأبطت يا ثابت؟ قال: الغول. قالوا: لقد تأبطت شراً، فسمي بذلك» (12).وفي رواية ثانية يقول: «قالت له أمه: كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح غيرك، فقال لها: سآتيك الليلة بشيء، ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه، فلما راح أتى بهن في جراب متأبطاً له فألقاه بين يديها ففتحته فتساعين في بيتها فوثبت وخرجت فقال لها نساء الحي: ماذا أتاك به ثابت؟ فقالت: أتاني بأفاعٍ في جراب، قلن: وكيف حملها؟ قالت: تأبطها، قلن: لقد تأبط شراً، فلزمه تأبط شراً» (13).وفي إضافة على الرواية السابقة يقول: «حدثني عمي قال، حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم بمثل هذه الحكاية، وزاد فيها أن أمه قالت له في زمن الكمأة (14) ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة فيروحون بها، فقال: أعطيني جرابك حتى أجتني لك فيه، فأعطته، فملأه لها أفاعي، وذكر باقي الخبر مثل ما تقدم» (15).ويذكر د.نجم عبد الكريم (16) عن تأبط شرّاً أنه كان «خارق القوة، فإن اتَّكأ على بعير أسقطه، أو استوى على ظهر فرس أجهضها، وهو أسرع من الجياد الجامحة، ويسبق الظبي في عدوه، وإن رمى رمحه، فإنه كريح الشتاء، ورغم أن له الكثير من الحكايات الخرافية مع الجان والغيلان، إلا أن الذين وصفوه يرون أنه هو الغول بعينه، فضفيرتاه تشبهان قرني الشيطان، وله عينان حمراوان، تنبعث منهما أشعة كريهة تنذر الناظر إليهما بالموت، وفمه كفوهة بئر، أما أنفه فإنه يشبه رأس البعير.. مع هذه الأوصاف وغيرها من أمارات القبح، فإن تأبط شراً يعد واحداً مِمّن يعشقنه النساء، كما تجلى ذلك واضحا في أشعاره». وبعد انتصار تأبط على الغول في إحدى معاركه، أنشد بيتين من الشعرِ تفاخراً (17):ألا مَنْ مُبْلِغٌ فتيانَ فَـهْمٍبمـا  لاقَيْتُ عند رحى بطانِ (18)بأنّي قد لقيتُ الغولَ تهوي بسَهْبٍ كالصَّحيفة صَحْصَحَانِ (19).وحول ذلك يعلّق شريف بشير أحمد: «أظنُّ أنَّ الخيالَ الشعريَّ قد ضخَّم الأشياءَ مُسْتَدعياً حيواناً خرافياً يقبعُ في الذاكرة الشعبية للمجتمع الجاهليِّ بوصفه نموذجاً يُخَوِّفُ به الكبارُ الصغارَ، أو يَسْتَمطرونَ الشرَّ على أعدائهم وخصومهم بالدعاء عليهم به. وكأني بالقولين السابقين يَصْدُرَان عن عقلية تمتهن القصَّ والحكاية، وتحترفُ الرواية؛ لتشكيل الحدثِ الشائقِ تشكيلاً تستسيغُهُ ذائقة العوام، وتُتقنُ بناءَ الوجود اللغويِّ للغولِ بتجسيدِ الوهمِ والتخيّل تجسيداً واقعياً بالكلمات. وكأني بالشاعر تأبّط شراً يمتلكُ طاقةً حيويةً يَسْتحوذُ بها على الآخر (الغول) وإرادةَ الفعلِ التي تُقَرِّرُ التغيير» (20).ولم تكن علاقة تأبط مع الغول علاقة عدائية على الدوام، بل ثمة شِعرٌ يشير إلى وجود مجاورةٍ حسنَة بينهما، وفي ذلك يقول:على شـِيْمِ نـارٍ تنوَّرْتُهـا فـبِـتُّ لها مُدْبراً مُقْبلاًفأَصبحتُ والغُولُ لي جارةٌ فيا جارتَا أنتِ ما أَهْوَلا (21).ويرى شريف بشير أحمد أنه «وبفعلٍ إراديٍّ مقصودٍ، يقابلُ تأبَّط شراً الغولَ في ليلٍ أليل حَذِراً قلقاً، ومقبلاً مدبراً، يهتدي بوميضِ البرقِ، وألسنةِ اللهب؛ ويتحركُ يمنةً ويسرةً حتى لا يغفلَ أو ينعسَ. وبعد أن أبصرَها تغوَّلت عليه، وكادت تفتك به؛ فإذا به يُحوِّلُهَا بخيالٍ خصبٍ من التوحُّشِ إلى الأنسنةِ، ومن العُجمةِ إلى النطقِ، ومن البهيميةِ إلى المدنيّة؛ ومن الوهم القاهرِ إلى الواقعية باللغة الفصيحة» (22).ويؤكد عبدالله سليم الرشيد أن الأعراب «أكثر اعتقاداً بالجن، ويزعمون أن لهم أماكن في الصحراء، ولهذا كثر ذكر الجن والسعالي والغيلان في شعر الصعاليك واللصوص» (23). وينقل عن الجاحظ في كتابه «الحيوان» أن هذا التوجه لدى الأعراب يعود إلى التفرّد في الفلوات وأثره على العقل والتفكير إذ يقول: «ثم جعلوا ما تصّور لهم من ذلك شعراً تناشدوه، وأحاديث توارثوها، فازدادوا بذلك إيماناً» (24).(1) مرتضى الزَّبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس، ج23، دار الهداية، بيروت، 1385هـ، ص193. (2) ذكرت القصة في معظم المدونات التاريخية في روايات متطابقة.(3) أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (ابن منظور): لسان العرب، ج5، دار صادر، بيروت، 2003، ص51. (4) المصدر نفسه، ص53.(5) خير الدين الزركلي: موسوعة الأعلام، ج2، دار العلم للملايين، بيروت، 1980، ص303.(6) المسعودي: مروج الذهب، ج2، الموسوعة الشاملة على الإنترنت www.islamport.com.(7) ابن خلدون: مقدمة ابن خلدون، ج2، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، 1971، ص209.(8) ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، ج2، موقع الوراق www.alwarraq.com.(9) ابن حمدون،التذكرة الحمدونية، ج2، الموسوعة الشاملة على شبكة الإنترنت www.islamport.com.(10) أبو فرج الأصفهاني، الأغاني، ج10، ص138.(11) الحسن بن محمد الصغاني، العباب الزاخر واللباب الفاخر،ج1،الموسوعة الشاملة على شبكة الإنترنت www.islamport.com.(12) الأصفهاني: الأغاني، ج10، ص138.(13) المصدر نفسه، ص138–139.(14) الكمأ: اسم لعائلة من الفطريات، وهو فطر بري موسمي ينمو في الصحراء بعد سقوط الأمطار بعمق 5 إلى 15 سنتيمترا تحت الأرض، ويستخدم كطعام، عادة ما يتراوح وزن الكمأة من 30 غراماً إلى 300 غرام. ويعد من ألذ وأثمن أنواع الفطريات الصحراوية. ينمو الكمأ على شكل درنة البطاطا في الصحارى، فهو ينمو بالقرب من نوع من النباتات الصحراوية قريباً من جذور الأشجار الضخمة (الموسوعة الحرةويكيبيديا).(15) الأصفهاني، الأغاني، ص138.(16) نجم عبد الكريم: تأبط شراً.. ما بين الحقيقة والخرافة والخيال (مقال)، صحيفة»الشرق الأوسط»، لندن، العدد9161، 12/12/2003.(17) موقع أدب العرب www.arabadab.net، باب العصر الجاهلي «ثابت بن جابر».(18) رحى بطلان المنطقة التي تمت فيها الحادثة.(19) صَحْصَحَانِ: ما اتسع من الأرض وانكشف واستوى.(20) شريف بشير أحمد: الغولُ والصُّعلوك تأبَّط شرَّاً نموذجاً شعرياً (مقال)، مجلة «التراث العربي»، اتحاد الكتاب العرب، دمشق، العددان 93 و94، 2004.(21) يوسف خليف: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي، دار المعارف، القاهرة، ط4، 1986، ص247.(22) شريف بشير أحمد، مرجع سابق.(23) عبدالله سليم الرشيد: شعر الجن في التراث العربي، كتاب «المجلة العربية»، الرياض، العدد186، العام 1433 هـ، ص 17.(24) المرجع نفسه، ص 31