شاعر أردني يدعو إلى إعادة النظر في النظم الضابطة لشرعية النص
حاوره: أحمد الخطيب - لم تكن التجربة التي قطعها الشاعر يونس أبو الهيجاء تحتاج إلى فتره زمنية طويلة، كذلك لم تتصل تجربته بمراحل متعاقبة، حيث حرق المراحل وكثّفها عبر اتصاله المباشر وإفادته من تجارب من سبقوه، فهو شديد الإنصات ذو بديهة سريعة، يلتقط بحدسه السريع كلّ ما يرى أنه يقوّم التجربة ويدفعها إلى مستوياتها الناجزة.
باكورة أعمال الشاعر أبو الهيجاء الذي حاز على أكثر من جائزة إبداعية تجّلت شعريتها الأولى الخاضعة لمقاييس المنجز الشعري العربي في ديوانه» على ضفاف المائدة»، لكنّه لم يستقرّ على هذه الضفاف، فانطلق باحثاً عن أعماق التجربة وبحرها، فضاقت العبارة واتّسعت الرؤية، لتصل فيما بعد إلى العمل الشعري الثاني» ضاق الفضاء بفمي» العمل الذي احترقت فيه كثير من المراحل التي يحتاجها لإكمال أدواته ووعي شاعر في بداية طريقه، من هنا استخرج معينه الشعري ليصل في دورته إلى « فسحة ظل» و» كيف يفقهني الكلام»، و» لا أرى شجرا يسيرُ لغايتي»، من خلال هذه المستويات والمعطيات نسلط الضوء في هذا الحوار على صورة الشاعر ومقاربته للمفاهيم الشعرية.
بنص تقريبي يرسم صورتك الذاتية ماذا تقول؟
أنا ابن أبي، وتعرفني الخيامُ النازحاتُ، وتعرف جيدا كيف انبثقتُ من الحكايات البريئة في كتاب الحدس أمي حين دُسَّ في الرمال، خفَّ الأمنيات فكانت الأحلامُ حيث كنتُ، لا نومَ يتبعني لأغفو عن رؤايَ، هي السكرة اندلعتْ، لأكونَ وحي هاجسي، يدايَ مشرقُ الانعطاف، لي حكمةٌ تتجمع فيها طيوف النداءُ، والنداءُ كمنجاتُ روح على جزر هويتي، هكذا لملمتُ ما تركَ الزمانُ من الغوايةِ في دمي، ليكون يوما لساني منبر الأفقِ الجميلِ، وروحي مسرحُ الشفقِ الكريمِ، أنا جمرةُ الشعر التي آنسَتْها الممكناتُ واستراحَت عن يديها في المدار المعجزاتُ، في الحبِّ لي مرآتهُ العليا تُطلُّ على صفاء الله في المعنى الذي يخفى عن الخليقةِ في ظهوره الأزلي إذ أقولُ :
« قد ترى الله وأنت ضريرُ ويضيقُ المدى وأنت بصيرُ « وللمجلى ظلالٌ ترفؤُ الجرحَ إذا ضاق الفضاءُ بمخيالِ الفتى ولم تلسع رؤاهُ الكائناتُ.
بعد مجموعة من الجوائز كيف تنظر إلى الشعر؟
لم يعد الشعر ذلك الملهى الذي نطفو على عتباته، لنُعيدَ تشكيل الحقائق أو نراوغُ شكلها الهزلي كي نحيا بعيدا عن الهم اليومي، أو نستبعد الذكريات التي ما انفكت لصيقةً بدمنا المتجدد كل حين، فالشعر بات الحياةُ، وفي كل شيء لحظةٌ من جمال هي الشعرُ أيضاً، وهو يدٌ لا تقطف الأزهار أبدا، لذا فهو الحديقةُ، وهو اليدُ التي لا تقتلُ الأطفال، لذا فهو الوطنُ الجميلُ، وهو انعتاقُ الروحِ إذ ترسمُ طفلةٌ أحلامها في لوحةٍ تغفو بها الألوانُ، لذا فهو المعجزاتُ، وهو ذلك الشيخُ الممددُّ في الطريقِ أتاهُ الله أسرار البدايةِ والنهايةِ واكتفى بالفراغِ، هنا كنتُ انتبهتُ لغايةِ الشعر المصفّى في غواياتِ اللغةِ المراوغةِ التي لابدَّ ان تتجاوز حدَ ما تركَ النحاةُ من الرتابةِ في تفاصيلِ البناءِ، وحدَّ ما تركَ البيانيونَ من التشبيه والاستعارة والكناية والمجاز إلى التجسيد والتجريد والأنسنة، وما إلى ذلك من فنون أصيلة ساهمت في تجديد البناء الفني للصورة الشعرية، وفي تجديد ديناميكية النص وهندسة المعنى، من هنا لابدَّ من إعادة النظر في النظم الضابطة لشرعية النص الشعري، وتجديد المتهرئ منها لنستطيعَ مواكبة التطور الهائل لهذا العصر على جميع مستوياته، باعتبار الشعر من أهم المعطيات اللازمة لبناء الحضارة وركيزة أساسية لنهضة الأمم على مرِّ العصور.
ما هي المقاربة التي تبحث عنها في المزاوجة بين النص الكلاسيكي والحديث؟
إن المزاوجة بين القديم في الشكل والحديث في المضمون لهو ركيزة أساسية لتطوير الرؤى الشعرية عند الشاعر الحداثي، ليكون حداثياً أصيلا ملتزما بما تركه علماؤنا الأجلاء في ميدان الشعر، ساعيا إلى الخلق والجديد، مُطوّراً جريئاً على اللغة والأسلوب والبناء والإيقاع والموسيقى، ضمن أسس فنية جاءت وليدةَ مرجعياتٍ علمية وفنيّة عربية أصيلة، لذا أنا أبحث دائما عن التجديد وأحلم بالقصيدة التي لم تُكتب بعد والبناء الفني الذي لم يُقتحم أبداً، أسعى جاهدا لكتابة القصيدة العمودية باللغة المتفجرة ذاتها التي أكتب بها قصيدة التفعيلة ببنائها الحداثي ولغتها المتفجرة.
هل يستطيع الشاعر الولوج إلى النص الصافي دون أن يكون ملما بالمفاهيم الشعرية؟
لكلِّ شاعر أدواته اللازمة، وليس المهم هنا امتلاكها فقط، بل كيفية استخدامها، ومن هنا لابد وأن يكون الشاعر قد مارس الشعر باعتباره صنعة، وألمَّ بالمفاهيم الأساسية للشعرية العربية خاصةً، كإطلاعه على حركة الشعر العربي في العصور الاولى والمتقدمة، وتتبّع حالة التطور وإرهاصات البناء الشعري بين القديم والحديث، والمرور على المدارس الشعرية ومعرفة وجهات النظر المختلفة فيها حول القصيدة العربية، كما لابدَّ له من الإلمام ببحور الشعر العربي عند الخليل وقد سبق له وأن نظم عليها وتتبّع بناء القافية عنده ومعرفة ما هو جائز وما هو غير جائز أو مستقبح وغيره، إذا لابدَّ للشاعر أو المبدع من المرور على تاريخ الأدب العربي كاملا شعره ونثره قراءةً دقيقة ناقدة، وأنا أرى ان من لم يقرأ المعلقات وكتاب الأمالي لأبي علي القالي والكامل للمبرد وفقه اللغة وأسرار العربية للثعالبي والبيان والتبيين للجاحظ وديوان البحتري والفروق في اللغة لأبي هلال العسكري وما إلى ذلك من مؤلفات في موسيقى الشعر العربي ولم يعاصر شاعرا ولم يمرَّ على الادب الصوفي خصوصا لن يكتب شعرا وسيظل يهذي.
البحث عن المغايرة والاختلاف وامتلاك الصوت الشعري الخاص أين يكمن في النص الشعري، هل في اللغة، أم في الإيقاع، أم في المتخيل الكلي للنص؟
البحث عن المغايرة والاختلاف وامتلاك الصوت الشعري الخاص يكمن في امتزاج الادوات الفنية السابقة الذكر، أي في اللغة باعتبارها المادة الأولى للشعرية الصافية وذلك في انتقاء الألفاظ الجديدة ونفث الروح في الالفاظ المعجمية وإلباسها حللا بمعان مختلفة تماما عن السائد، أي بانحراف اللغة عن النسق التقليدي للمعجم العربي المعهود، كي لا نصل إلى مأزق لغوي حقيقي كان لا بدَّ من البحث في استخدامات اللغة وتطويرها، بكسر حاجز القاموس مع الخبرة الفنية في ذلك، أما بالنسبة للإيقاع فهو الأسلوبية التي بات ينماز من خلالها النص الشعري المعين عن غيره من النصوص، وذلك مهم جدا في مراحل البحث عن التجديد والتطوير في بناء القصيدة العربية بجميع محتوياتها، والإيقاع مادة أصيلة لا يتقنها إلا القليل من الشعراء، فهو ليس اللغة ولا الموسيقى ولا الصورة، بل هو امتزاجٌ شفيفٌ بين هذه المستويات الفنية في القصيدة، ولا ننس في هذا المقام الاهمية البالغة للمخيال الشعري، فهو المسرح الافقي والعمودي للحركة الموسيقية الناتجة عن دمج اللغة بالإيقاع بالموسيقى الداخلية والخارجية، بالحالة النفسية للشاعر وبالجمال الشعري الغرائبي النكهة والملامح.
التجربة الشبابية، وبصفتك أحد فرسانها، كيف تقيم نتاجها الشعري؟
لا تخلو مرحلة عمرية ما من تفاوت كبير في مستوياتها الإبداعية، ليس على الشعر فحسب، بل على مختلف الأجناس الأدبية المعروفة، لكنها في الشعر خاصة باعتباره عصب الإبداع الكتابي ومادته الأولى، فالنتاج الشعري الشبابي يسير نحو التجديد والتطوير وخاصة مع ظهور قصيدة النثر ومعطياتها، إلا انني أرى كما ذكرت سالفا في أدوات الشاعر، فإن التجربة الشبابية تفتقد عموما إلى المقومات الأساسية للشعرية العربية، والسبب الرئيس في ذلك هو الذائقة الادبية التي نشأت عليها الاجيال الحالية، وبعدها عن النقد البنّاء الذي يسمو بالنصوص ولا يقحمها الساحة الادبية لاعتبارات كثيرة ومن هنا لابد من إعادة النظر في دور الشباب الإبداعي في الشعر، من خلال تبني المؤسسات الثقافية هذه الأصوات وتوجيهها ورعايتها، اما انا فأرى أن تجربتي الشعرية كشاب تختلف كثيرا عن أبناء جيلي لأسباب كثيرة، اهمها البيئة الصوفية التي نشأت فيها، واستمرت لسنوات طوال، كان لها دور مهم في صقل ذائقتي الروحية من خلال التمحيص للتراث الصوفي من الحلاج وابن عربي وصولا إلى جلال الدين الرومي وغيرهم.
من خلال تجربتك بمتابعة بعض الأعمال الشعرية نقدياً، ماذا تريد من هذا الفعل، هل هو تعويضا عن غياب النقد؟
لا يخفى على الجميع أن النقد العربي بات قاصرا عن متابعة الكم الهائل من الإبداعات الشعرية على المستوى المحلي والعربي، حيث انه لا مقاربة تقوم بين عدد المنجز الشعري والمنجز النقدي العربي، وجميعنا يعلم ان للناقد أدواته كما للشاعر، وبما أنَّ الشاعر العربي عامة والأردني خاصة قد عمل على تطوير أدواته الشعرية للوصول به إلى العالمية، كان لا بدَّ للناقد أيضا من البحث في تطوير الأدوات اللازمة للتعامل مع النصوص الشعرية الحديثة، من هنا كان دوري في البحث عن المفاهيم النقدية الجديدة، والتي يمكن من خلالها الولوج إلى داخل النص الحداثي وتفكيكه والوقوف على مواطن الجمال فيه، ليتسنى للدارسين وغيرهم فهم الهندسة البنائية القائمة عليها النصوص الحداثية، فكانت لي مجموعة من الدراسات جمعتها في كتاب تحت عنوان ( آخر الحرف أول الرؤى ) والذي سيصدر قريبا إن شاء الله، وكان من مجمل الدراسات السمات الفنية والجمالية لتجليات الرؤيا عند شعراء الشمال ودينامكية النص الشعري وهندسة المعنى والانحراف المعياري للصورة الشعرية والبناء الفني للعمل الإبداعي، ومن هنا كان لابد من توجيه أنظار النقد الاردني للمبدع الاردني والعمل على تقديمه للعالم العربي والغربي بالصورة الرائقة، كما هو الحال في الدول المجاورة مثل مصر والعراق ولبنان وسوريا وغيرها، وأقول إنَّ لدينا مبدعين شعراء أبهروا العالم العربي بإبداعهم وباتوا يُذكرون في المحافل الدولية والعالمية ولا ذكر لهم في وطنهم الأردن.
بعد خمسة دواوين شعرية فازت معظمها بجوائز محلية وعربية، ما هو جديدك؟
الحمد لله الذي وفقنا بالحصول على عدد من الجوائز العربية والمحلية وكان أهمها جائزة دبي الثقافية للعام 2013 عن ديواني ( كيف يفقهني المقام؟ ) والذي تبنت نشره وتوزيعه لخمس سنوات قادمة وزارة الثقافة والتراث والفنون القطرية، أسعى جاهدا الآن للمشاركة بمسابقة عالمية عن ديواني ( لا أرى شجرا يسيرُ لغايتي ) والتي سأصرح عنها لاحقا كما أستعد جاهدا للمشاركة في مسابقة أمير الشعراء في موسمه السادس أسأل الله التوفيق والتسديد.