ارتبط استقلال المملكة الأردنية الهاشمية برحلة شاقة ومضنية من الكفاح والنضال ورغبة حقيقة في التخلص من الاستعمار الأجنبي، فكانت أولى مراحل الكفاح من أجل الاستقلال عام 1916 عندما أطلق المغفور له بإذن الله الشريف الحسين بن علي رصاصة الثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، والتي أسفرت عام 1918 عن طرد القوات العثمانية عن شرق الأردن، ومن ثم واصلت القوات العربية زحفها إلى درعا وصولا إلى دمشق لتدخلها في تشرين الأول 1918. وبعد اندحار الاحتلال العثماني قام الأمير فيصل بن الحسين بمحاولة تشكيل أول حكومة مستقلة موحدة في سوريا الطبيعية، حيث عهد إلى الفريق رضا باشا الركابي مهمة تشكيل حكومة عربية ليصبح بعد ذلك يعرف بالحاكم العسكري العام. إلا أن نكول بريطانيا عن وعودها للشريف الحسين بن علي قبل الثورة العربية الكبرى ومطامعها الاستعمارية في سوريا الطبيعية مع حليفتها فرنسا قد أدى إلى توقيع اتفاقيتي سايكس بيكو وسان ريمو واللتين قضتا على أحلام الشريف الحسين بن علي في الوحدة العربية.
أما المرحلة الثانية من الاستقلال فارتبطت بتأسيس إمارة شرق الأردن عام 1921 والتي بدأت بقدوم المغفور له الأمير عبد الله الأول ابن الحسين من الحجاز إلى معان في طريقه إلى دمشق وذلك لمساعدة الثوار السوريين في قتال الفرنسيين. فعندما وصل المغفور له الأمير عبد الله إلى عمان في آذار 1921 أسرعت بريطانيا من خلال وزير مستعمراتها تشرشل إلى التفاوض معه، حيث تم الاتفاق على تأسيس حكومة وطنية مستقلة في شرق الأردن تحت الانتداب البريطاني. وفي نيسان من عام 1921 صدر أول مرسوم أميري بالموافقة على تشكيل أول حكومة في منطقة شرق الأردن برئاسة رشيد طليع حيث كان يسمى مجلس الوزراء في ذلك الوقت مجلس المشاورين، ورئيس الوزراء يسمى بالكاتب الإداري. وفي 25 آيار 1923 اعترفت الحكومة البريطانية رسميا باستقلال شرق الأردن تحت الانتداب البريطاني وذلك بموجب قرار عصبة الأمم المتحدة الذي صدر استنادا لأحكام المادة (22) من ميثاق عصبة الأمم والتي كانت يلزم الدول المنتدبة بمساعدة الدول الخاضعة لانتدابها على المضي قدما نحو الاستقلال.
وعلى ضوء ذلك الاعتراف سارع الأمير عبد الله في خطوات الإصلاح السياسي والدستوري في شرق الأردن، حيث قام بتأليف لجنة منتخبة من الشعب لوضع مشروع قانون أساسي (دستور) لشرق الأردن، ومشروع قانون انتخاب للمجلس النيابي عام 1923. إلا أن المماطلات البريطانية في تلك الفترة قد حالت دون أن يرى ذلك الدستور النور، الذي تأجل إصداره حتى عام 1928 عندما تم توقيع معاهدة بين الحكومة البريطانية ممثلة بالمارشال بلوفر ورئيس حكومة شرق الأردن في ذلك الوقت حسن خالد باشا أبو الهدى يوم 20 شباط 1928، والتي صدر بموجبها أول قانون أساسي (دستور) في إمارة شرق الأردن في نيسان 1928. وقد استمد القانون الأساسي لعام 1928 أحكامه من روح الاتفاقية البريطانية الأردنية ولم يتم الأخذ بمشروع القانون الأساسي الذي أعدته اللجنة المنتخبة، ليكون ذلك الدستور تجسيدا لحكم استعماري.
أما المرحلة الثالثة من مراحل الاستقلال فقد كانت في الفترة ما بين عامي 1928 و1946 حيث أعلن سكان شرق الأردن رفضهم المطلق للمعاهدة الأردنية البريطانية الموقعة عام 1928 وذلك من خلال عرائض قاموا بإرسالها إلى الأمير عبد الله والحكومة الأردنية وعصبة الأمم المتحدة مطالبين باستقلال أكبر لإمارة شرق الأردن. وقد أسفرت المعارضة الشعبية عن انعقاد المؤتمر الوطني في عمان في تموز من عام 1928 الذي حضره كبار زعماء وشيوخ ومفكرين شرق الأردن، والذين أعلنوا رفضهم للمعاهدة الأردنية البريطانية. وقد صدر عن المؤتمر الوطني مجموعة من التوصيات عرفت بالميثاق الوطني كان أهمها المطالبة بأن تكون إمارة شرق الأردن دولة عربية مستقلة ذات سيادة، وأن تدار من قبل حكومة دستورية مستقلة برئاسة الأمير عبد الله الأول ابن الحسين.
وعلى الرغم من صدور الميثاق الوطني استمرت المعارضة الشعبية في شرق الأردن، والتي أخذت منحنى جديد يتمثل في تشكيل أحزاب سياسية أردنية بموجب قانون الجمعيات العثماني لعام 1909 كان أهمها حزب الشعب الأردني وحزب التضامن الأردني وحزب الإخاء الأردني، والتي كانت تطالب جميعها بالاستقلال التام لشرق الأردن عن الانتداب البريطاني.
وعلى الصعيد الخارجي فقد شهدت الفترة ما بين عامي 1928 و1946 أحداثا مختلفة ساهمت في زيادة الضغوطات السياسية على الحكومة البريطانية لإعلان استقلال شرق الأردن. فقد نشبت الثورة الفلسطينية عام 1936 والتي وقف الأردنيون معها ورفعوا علم الثورة العربية الكبرى شعاراً لها، ثم بدأت الحرب العالمية الثانية عام 1939، وكان الرد البريطاني أن انشغال الحكومة البريطانية في الحرب يمنعها من التفكير في استقلال إمارة شرق الأردن.
وما أن انتهت الحرب حتى طلبت الحكومة الأردنية من بريطانيا أن تفي بوعودها، فظهرت أولى بوادر استجابة الحكومة البريطانية على لسان وزير الخارجية البريطاني بيفن في خطاب له ألقاه في اجتماع هيئة الأمم المتحدة الذي انعقد في لندن بتاريخ 17 كانون الثاني 1946، حيث أشار بيفن إلى التطور السياسي الذي حصل في شرق الأردن، والذي وصل مرحلة يمكن رفع الانتداب عنها.
وفي 22 آذار 1946 تم توقيع معاهدة صداقة وتحالف بين الحكومة البريطانية والحكومة الأردنية، والتي أشارت صراحة إلى اعتراف بريطانيا بالاستقلال الكامل لشرق الأردن مع تبادل التمثيل السياسي بين الدولتين على قدم المساواة. إلا أن بريطانيا قد احتفظت لنفسها في تلك المعاهدة بتواجد قوات لها في شرق الأردن، وأن يقوم ضباط بريطانيين بالعمل مع القوات الأردنية لتدريبهم ومساعدتهم وذلك مقابل مساعدات مالية تقدمها لشرق الأردن. وقد استمر التواجد العسكري البريطاني حتى قام المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال عام 1956 بتعريب قيادة الجيش الأردني وإعفاء كلوب باشا من منصبه كقائد للجيش الاردني وتسليمها إلى ضباط أردنيين، وذلك في عهد الحكومة الوطنية التي ترأسها المرحوم سليمان النابلسي، حيث جلاء آخر جندي بريطاني عن تراب الأردن في 13 آذار 1957.
وقد تم عرض المعاهدة الأردنية البريطانية التي أبرمت عام 1946 على مجلس الوزراء برئاسة إبراهيم هاشم الذي قبلها بتاريخ 30 آذار 1946، وقرر عرضها على المجلس التشريعي. وقد اجتمع المجلس التشريعي يوم السبت الموافق 25 أيار 1946 وقرر بالإجماع إعلان شرق الأردن دولة مستقلة استقلال تاما، ومبايعة الأمير عبد الله بن الحسين ملكا دستوريا على البلاد على أن يعطى لقب حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة الأردنية الهاشمية.
وعلى ضوء إعلان استقلال المملكة الأردينة الهاشمية تم تعديل القانون الأساسي (دستور) 1928 بما يتوافق مع قرار الاستقلال. إلا أن المطالب الشعبية المتكررة ضد معاهدة عام 1928 دفعت الحكومة الأردنية إلى وضع دستور جديد للبلاد هو دستور الاستقلال عام 1946 حيث تم إقرار مشروع الدستور الجديد في 28 كانون الأول 1946 وتصديقه ونشره في الجريدة الرسمية في شباط 1947. وقد تضمن دستور الاستقلال 1946 مجموعة من المبادئ الدستورية التي لم تكن موجودة في دستور 1928 والسبب في ذلك طبيعة التغيير السياسي الذي طرأ على شرق الأردن والمتمثل في الحصول على الاستقلال التام. فقد نص دستور 1946 صراحة على أن الأردن دولة مستقلة ذات سيادة وملكها لا يتجزأ ولا ينزل عنه شيء، وأن نظام الحكم فيها ملكي وراثي من أسرة الملك عبد الله الأول بن الحسين، ونيابي من خلال إيجاد مجلس نواب منتخب من قبل الشعب.
وبتحقيق الاستقلال التام بدأت المملكة الأردنية الهاشمية بلعب دور بارز عربيا ودوليا وذلك للدفاع عن هموم الأمة العربية والإسلامية، فقد شارك الأردن وبعد ثلاثة أيام من استقلاله في مؤتمر قمة انشاص بمصر في الثامن والعشرين من أيار عام 1946 والتي أعلن فيها ملوك ورؤساء الدول العربية أن القضية الفلسطينية هي قضية عربية وهم مشترك لسائر العرب وليس للفلسطينيين وحدهم.
وقد ترسخت الحياة السياسية والدستورية في الأردن بإصدار الدستور الحالي لعام 1952 والذي خضع منذ ذلك التاريخ وحتى عام 2011 إلى سلسلة من التعديلات الجوهرية التي أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أن الدستور الأردني هو دستور حي، وإن كان جامدا من حيث آلية تعديله.
وما زال الأردن ومنذ تاريخ الاستقلال يشد الرحال نحو تحقيق التنمية الشاملة والنهضة الحقيقية التي يرضى عنها الأردنيون وتجسد أفكار القيادة الهاشمية التي عملت طيلة سنوات الكفاح والنضال ليتسلم دفتها صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله ورعاه الذي يعمل وبشكل دؤوب على رفعة الأردن وتقدمه بما يحقق الطموحات الشعبية ويضمن حقوق الأجيال القادمة في العيش برضى وسلام على التراب الأردني.
* أستاذ القانون الدستوري المساعد في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية
[email protected]