- -

واقعُ الفلسسطيني وبلاغة التصوير

واقعُ الفلسسطيني وبلاغة التصوير

حسين يونس - في ليالي كندا الباردة، كان صقيع الشتاء الشمالي يُلقي بثلجه علينا كما يُلقي العدو بذخيرته على أهل فلسطين، إذ انخفضت درجة حرارة مدينة تورونتو إلى 20 درجة مئوية تحت الصفر، تماماً كما انخفض مؤشر الحياة هناك، في فلسطين. لكن شاء القدر أن يجمعني بما يُدفّئ برد الروح ويجمع شتاتها، رواية التحف القلب المتجمد في بحر الرأسمالية بصفحاتها الحيَّة لتُعيد إليه النبض من جديد، أحيَت روحاً ممزقة بين أصقاع الأرض باحثة عن وطن، وطن في الغربة لا يمكن له أن يتجاوز جدران المنزل الذي تعيش فيه، خصوصاً إذا كان هذا الوطن هو فلسطين، فأقصى درجات المواطنة المسموح بها، خريطة على الجدار تُذكّرك ببيت جدك في مدينتك الأم، وعَلَم فلسطين ترفع له القبعة تحيةً وتمجيداً لما بقي من حدود دولة المنفى في خيالك.منذ أن بدأت قراءة الرواية، لم أتمكن من فراقها إلى أن انتهيت منها تماماً، قرأتها في غضون يومين اثنين.. قرأتها في خلوتي، وأنا أجلس مع العائلة، وأنا في «المترو» في طريقي إلى العمل.«ربّ إني وضعتُها أنثى» لم تكن مجرد رواية عادية.. هذا السرد الواقعي لِما كان من تاريخ الآباء والأجداد بين غربة ومنفى، مقاومة وصمود، سجن وتعذيب، غدر وخيانة، أمل ونصر.. أنثى وحيدة ترمَّلت أو تيتَّمت بقيت صامدة شوكة في حلق العدو.. هذا كله أعاد الحقيقة إلى نصابها الطبيعي في هذه الليالي المُحرَّفة، وحتى لا ننسى قصة شعب ما يزال يُعاني من ويلات المؤامرة والغدر والخيانة، كان لزاماً تسليط الضوء على هذا الإصدار القيِّم، ليستمر التاريخ شاهداً على صفحات زماننا السوداء.نردين أبو نبعة روائية أصلها ثابت وفرعها في السماء، أديبة حرة جذورها في فلسطين وثمارها في الأردن، أعادت إلى الأدبِ أدبهُ النقي من دون اللجوء إلى الكفر والإلحاد للتعبير عن الغضب والاستياء كما جرت عادة الكثير من الأقلام، أقلام ركيكة عجزت عن فهم أسباب الأزمة الحقيقة وافتقرت إلى الفكر النقي، فكان شذوذ النص حليف ما كتبوا إلى يوم الدين.في الرواية بلاغة لوقفات كثيرة عكست واقع الفلسطيني في الداخل والمهجر. تبدأ الرواية مع لحظة العبور إلى فلسطين، تشتد الخيانة بأبشع صورها، ويغدو الاحتلال بلباس عربي.. تماماً عند نقطة حدود رفح القابعة تحت إدارة الجيش المصري، وكأنَّ لسان حاله يقول لكل من يُحاول زيارة فلسطين: «إيَّاك أن تعاود المجيء مرة أخرى.. إيَّاك أن تُؤرِّق مضاجع السادة في إسرائيل»، كأن غزة واقعة بين فكَّي كماشة.. الفك الإسرائيلي من الشمال، والفك المصري من الجنوب، وبينهما روايات زَيف عن أهل القطاع لتبرير تهمة «التخابر»: «نَخرج من الغرفة الضيّقة كضيق عقولهم وعواطفهم» (ص17)، و»يُذكّرونك بأنَّ الاحتلال مازال على صدرك» (ص17).وعندما يغيب الوطن، تغيب معه الحياة بأسرها، فلا مكان بعده يصلح للحياة، فيُصبح اللاجئ الفلسطيني مُضطراً بين كل حين أن يبحث لنفسه وأهله عن موت جديد في مكان آخر: «ثمَّة وطن قد فقدته هناك.. فكل البلاد بعده سواء» (ص18)، و»كأن قَدر الفلسطيني البحث عن حتف جديد» (ص19).,خلال رحلات الفلسطيني الكثيرة بين أقطار الأرض باحثاً عن مُستقر، يجد شيئاً ما يُذكّره بوطنه.. حتى لو كان هذا الشيء ثمار البرتقال على شجرة: «ما أصعب أن يكون وطنك في يديك ولا يكون» (ص21).وخلال هذا التنقل والكدِّ في البحث عن القوت والأرزاق، تبدأ الذاكرة بشكل عفوي بمحو ما بداخلها في محاولة للحياة من جديد: «جاء ليُعلمني الحذر من عبث الغربة بذاكرتي» (ص21).والأم الفلسطينية ليست كباقي الأمهات، فهي تضطر في كثير من الأحيان بسبب الغربة وفقدان المُعين أن تكون هي الأم والأب.. وهي تعلم أنَّ الشكوى للعبيد لن تأتي بشيء: «أمي كانت قوية لدرجة أنها أغرت القارب بأن تكون شراعه على ضعفها ورقَّتها» (ص26)، و»مقولة (لويس هولتز): لا تخبر الناس عن مشكلاتك، فثمانون في المائة لن يهتموا، والعشرون الباقون سعداء لأن لديك مشكلات» (ص27).وثمة لفتة مهمة إلى ضرورة تأصيل فكرة الوطن المُحتل في قلوب وعقول أبنائنا وبناتنا من الجيل الجديد، وإلاَّ ومن دون أن تشعر، ستجد أنك تحيا بشخصية العربي الحرِّ القنوع، وأولادك يَحيَون بشخصية الغربي الغِرِّ الخنوع: «هل أحكي لك أني ما فقدت بوصلتي ببعدك عني لأنَّ أخي الحبيب صنع لي تعويذة من التيه؟» (ص31)، و»أشعر بتأنيب الضمير لأنَّ أطفالنا الذين وُلدوا في المنفى بلا ذكريات.. بلا أهل أو أقرباء» (ص80) و»لقد كان يُطارد النجاح والتفوق في ذلك الفتى الذي بعثره هَجر الأب ولملمته الكتب» (ص31).اليوم، أصبح من الصعب البوح بالحقيقة الكاملة، فبمجرد المحاولة سيُهاجمك الجميع ولن يبقى لك صديق، فالكل يُفضّل العيش في الغيبوبة على أن يواجه الحقيقة، فعلى سبيل المثال، من الصعب جداً اليوم المطالبة بفلسطين الكاملة في المحافل الدولية، ولا يمكنك البوح بهذا الطلب إلاَّ بين أحبابك ومن تثق بهم، ولكنك تعلم أن لله أمراً آخر سيأتي لا محالة.. فلا يبقى أمامك سوى الاستمرار بالمقاومة من خلال الصمت والصبر: «أحدق في الدم السائل غزيراً من فمي، الصمت والصبر هما شكلا المقاومة الجديدة» (ص35).وفي الرواية تعريف خاص لـ «الإرادة»: «لا يستطيع أحد أيَّاً كان ومهما بلغت قوته وحيلته أن يُجبرك على التلفظ إلاَّ بما تريد.. إنها الإرادة» (ص37)، و»يرفض السير على الخط الملون الزاهي.. خط الاستسلام» (ص40).وتتحدث الرواية عن معانة السجين في السجون العبرية وكيف أنها تدريب على القبر: «أيُعقَل أن يشتاق السجين حتى للحرف؟ ما أوجعه من ألم، أن تشتاق لتجرب صوتك بالحرف العربي» (ص44)، «هي بروفة افتراضية للقبر» (ص45)، «من كان يظن أن ضوء الشمس والحرف العربي سيصيران أقصى ما يتمناه سجين فلسطيني؟» (ص46)، «يكفي أنَّ تجرب الغربة لتكتشف أنَّ الإنسان اخترعها ليستطيع الإفلات» (ص187)، «تشهد غربتي أني ما تركت وطني إلاَّ ليخضرَّ عود عائلتي» (ص187)، «فالغريب يَضيق بالغربة وإن اتسعت، والسجين يَتسع بالسجن وإن ضاق» (ص188).وعندما يُحبس الجسد في سجن الغربة، تُحلّق الروح بشوق إلى الوطن، ولا يكون هذا التحليق إلاَّ للسجين: «حبس الجسد = تحليق الروح بعيداً» (ص47).لا بد من ثورة على الذات وعلى العادات الاجتماعية الرذيلة لفسح المجال للقيم الإنسانية من أن تعود كما أرادها الله سبحانه وتعالى، هذا هو «الربيع» بوجهه الحقيقي، وليس ذاك الذي حوَّل الجموع إلى قطيع من الثيران الهائجة يأكل بعضها بعضاً هباءً منثوراً: «عندما يبتعد الإنسان عن قناديل القيم الإنسانية ويسقط في وحل الجبروت الظالم، تسقط إنسانيته وتتفوق عليه أحقر المخلوقات» (ص50).يعتقد الإنسان أنه يحفظ لنفسه حياة كريمة حرة بتخلّيه عن دعم المقاومة والمقاومين، أو بتخليه عن الوطن، والبقاء في خانة التردد وعدم اتخاذ موقف واضح تجاه القضية، لكن الحقيقة غير ذلك، فللاحتضار صور أخرى قد تبدو أقبح وأقسى، كما هي الحال لصور السجن الأخرى: «الناس تحتضر من الخوف والعجز» (ص68)، «اكتشفت أنه لا وطن للذين يقفون على الحياد ولمن يقفون مواربة.. لا إلى هنا ولا إلى هناك» (ص84)، «إنَّ السجن الحقيقي هو الخوف» (ص108).الغربة عن الأهل وقلة العزوة، مؤلمة جداً، لا يعلمها إلاَّ من اكتوى بنارها، وأقبح ما في الغربة عندما لا تجد من تبوح له عن معاناتك، أو يموت لك عزيز دون أن تراه: «كم هو حارق طعم الدمع عندما يسيل إلى الداخل.. رائحته رائحة البارود» (ص133)، «إنَّ المعاناة تصبح متعة بالصحبة» (ص152)، «الموت صعب.. ويكون أصعب عندما لا نستطيع أن نودّع الأحباب وأن نُلقي النظرة الأخيرة» (ص200).