- -

«قتلوا الباشا» لخسرو الجاف.. الرواية السير الذاتية

«قتلوا الباشا» لخسرو الجاف.. الرواية السير الذاتية

كمال عبد الرحمنالمعروف أن السيرة الذاتية: هي «سيرة شخص يرويها بنفسه»، لكن هذا التعريف لا يعطي السيرة الذاتية خصوصيتها وسماتها وقواعد كتابتها، إذ إن من الصعب إيجاد تعريف دقيق وجامع لهذا النوع الأدبي الجديد، نظراً لما يثيره من إشكالات عديدة، منها ما يتعلق بطبيعة العلاقة أو الصلة بينها وبين المناهج النقدية، كالمنهجين التاريخي والنفسي. فأصحاب المنهج التاريخي عدّوا السيرة الذاتية ظاهرة حضارية تنشأ وتتطور في ظروف معقدة وضمن سياق اجتماعي ثقافي ذي طابع محدد، أما أصحاب المنهج النفسي فقد ربطوا السيرة الذاتية بطبيعة الشخصية التي تؤلفها وركزوا على مشاكل نفسية أخرى كقوة الذاكرة أو ضعفها، مما أبعدها عن جوهرها الأدبي والفكري. وللسؤال: «ما السيرة الذاتية؟» يضاف أحياناً سؤال آخر: «ما سمات السيرة الذاتية الجديدة؟»، وبذلك نكون قد أضفنا مفهوما جديداً، ربما يكون مفهوماً شخصياً، عمّا يجب أن تكون عليه السيرة الذاتية.. وهذا الانتقال من الحكم على الواقع إلى الحكم على القيمة، يبدو حتمياً في هذا المجال الذي تدخل فيه القيمة نفسها ضمن مقاييس التعريف.إن ما يميز السيرة الذاتية هو «التوصل إلى تقديم قيمة»، ويعرّف «لوجون» السيرة الذاتية بأنها «الرواية النثرية التي يروي فيها شخص ما قصة حياته بعد مضي فترة من الزمن، مسلطاً الضوء على حياته بخاصة على تاريخ تكوين شخصيته»، وهذا ما نراه واضحاً من خلال الاعتراف الأوّلي للشاعر والروائي خسرو الجاف، حيث يذكر في بداية روايته «قتلوا الباشا»:«خمس سنوات وبضعة أشهر وأنا أواصل كتابة هذه الرواية، أكتب شيئاً، ثم أتوقف، ثم أبدأ من جديد، محاولاً البحث عن مصادر أكثر وثوقاً، بيد أن كارثتنا نحن الأدباء الكرد -وأعوذ بالله- لو أردنا حجراً نرجم به رؤوسنا لوجدناه ضائعاً في خبر كان. على أي حال، تمكنت، بعد بحث وجهد وإرهاق، ومحاولات مضنية هنا وهناك، من إنجازها بهذه الصورة التي تجدونها بين أيديكم».ويضيف الجاف: «هذه الرواية، كأي رواية تاريخية، لا يمكن أن تكون نتاج فكر وتصوير وخيال مؤلفها وحسب، إنما حاولت رغم ذلك كله، وفي ضوء قدراتي، عدم الخروج عن آخر المصادر والأحداث التاريخية. إن اختياري لهذه المرحلة الزمنية من حياة شعبنا وأمتنا لم يجئ كون الباشا القتيل جدي، أو لأن معظم الأحداث قد وقعت في مناطق عشيرتي، إنما أردت بعملي هذا تسليط الضوء على حياة هذه الأمة وآلامها ومعاناتها» (ص5).تتشكل البنية السردية لهذه الرواية على مراحل من السيرة الذاتية، الأولى: السيرة الذاتية للسارد/ المؤلف، وهي في الغالب تشتغل من وراء السجوف، إذ تغيب «الأنا» بشكلها المباشر، وإن كانت مقدمة الرواية قد كشفت نوايا السارد/ الأنا من خلال اعترافه بأنه حفيد محمد باشا الجاف، لكن السيرة الذاتية للمؤلف لم تبرز في النص كما برزت شخصية الباشا مثلاً. والمرحلة الثانية: هي السيرة الذاتية للباشا والتي غلبت على معطيات السيرة الذاتية للمؤلف. أما الثالثة فهي السيرة الذاتية لقبيلة الجاف التي ينحدر منها الروائي.إن المساحة التاريخية التي تشتغل عليها هذه الرواية تمثل ثلاثة محاور أساسية هي: محور الدولة الفارسية في إيران، ومحور قبائل الأكراد في شمالي العراق ومنهم قبيلة الجاف، زمحور الدولة التركية وواليها في بغداد داود باشا. أما المحور الرابع الذي يبدو أنه غير مؤثر أو غير مباشر، والذي يعمل في الخفاء على استمالة الأكراد في المنطقة لإسقاط الدولة العثمانية واحتلال البلاد العربية وما يتيسر لها من دول المنطقة مثل دولة فارس وغيرها، فتمثله بريطانيا الاستعمارية، ما جعل الشعب الكردي في المنطقة في ذلك الوقت يقع بين نيران استعمارية وعدوانية وأطماع شتى، فالإنجليز يخططون، والفرس يعتدون، والعثمانيون يقصّرون، والكُرد يتحملون كل هذه المصائب، هذا إضافة إلى المؤامرات والدسائس التي تحاك بين القبائل ضد بعضها بعضاً، مما يجعل قبيلة الجاف تقع بين فكي كماشة من الخدع والعداوات: الدول الكبرى الاستعمارية في المنطقة، والقبائل الكردية التي دخلت في حروب وعداوات مع الجاف، وكان من نتيجتها قتل الباشا محمد الجاف مما أسس لمجزرة انتقامية قامت بها قبيلته ضد قتلته ولم ترحم في الغادرين أحداً:«لكنهم أخيراً، وحين كانت الشمس في طريقها إلى المغيب، رفع (الكرم ويسييون) أيديهم معلنين الاستسلام وبهذا حلت الكارثة بهم، ففي المكان نفسه أقدم فرسان الجاف على ذبحهم واحداً إثر واحد بحد السيف من دون أن يتركوا امرأة، طفلاً، فتاة، عجوزاً شمطاء أو شيخاً قد هدته السنوات، وهكذا لم يبق ولا طفل واحد لمجرد نموذج لهؤلاء» (ص179).هذا يدل على أن قبيلة الجاف لم تكن دائماً في هناء ومسرات، بل كانت قبيلة مكافحة صابرة صامدة بوجه رياح الأحداث وتقلباتها في المنطقة، وربما لم تصبها كارثة رغم كثرة الكوارث في المنطقة كما أنهكتها فاجعة اغتيال محمد باشا الجاف التي تصفها الرواية بشكل مأساوي مفجع:«ما دمتم تتصورون أنفسكم رجالاً، اقتلوني قتلة الرجال، لا قتلة جبانة تافهة، اقتلوني بخنجري ذلك المعلق على العمود..حينئذ نزع فارس حزامه من رقبة الباشا واتجه إلى العمود وتناول الخنجر واستله من غمده وغرزه في قلب الباشا» (ص170). ينقسم الفضاء المكاني في الرواية إلى قسمين. الأول: المكان المفتوح، إذ كان في وجوده غير مرهون بالوصف، حيث اللغة تتوفر على علامات لغوية (ظروف مكانية)، يمكن لها أن توحي وتومئ بالمكان في النص، غير أن الوصف هو الأداة الاستراتيجية في إكساب المكان استقلالية ضمن مسار السرد القصصي، ويضاف إلى ذلك أن الوصف يدخل القارئ إلى قلب المكان، بأشيائه وظواهره، فيه تتحد أبعاد المكان الروائي والقصصي: «ها هي أعراف الأشجار الباسقة تتلوى وتدور وتتأرجح في رقصات جنونية آخذة بالسجود على الأرض بين الفينة والأخرى لتطبع على أديمها قبلات شوق خاطفة، أما هدير الرشبا فهو بدوره مستمر في عويله وعوائه ناشراً براكين مرعبة من الخوف والرهبة في أجواء المدينة، وتبدو الصيحات الرهيبة لهذه الرياح السود كأنها ديناصورات ضارية قد هدها الجوع والعطش.. وتراءى جبل (كويزة) مثل عنقاء أسطوري يمارس العربدة والهيجان وهو يطبق بجناحيه على هذه المدينة التي خيم عليها الصمت والسكون ولم تجد أمامها من طريق للخلاص سوى الإصغاء لنحيب وعويل هذا الليل المدلهم الذي أسدل ستار العتمة على الكون ونشْب زاهر بيك مخالبه في جسد هذا الجبل الذي راح يتنفس بصعوبة» (ص59).وبيبدو الجبل فضاء مكانياً خاصاً، يكاد يكون مغلقاً على نفسه وفق نواميس طبيعية وطبائع وتقاليد بشرية شارك الجبل مشاركة كبيرة في خلقها وتأطيرها ومن ثم غلقها على نفسها، على الرغم من أن الجبل مكان مفتوح لا مغلق:«بدأت شجرة زاهر بيك مثل حيوان أسطوري هرم يتفرج على الطبيعة، وقد اتخذت أعرافها مشرئبة الأعناق من جلباب (زردة) الثلجي رفيقاً لبث نجواها وهمومها وما يعتلج في أعماقها، فقد كانت تحمل النسائم الرقيقة العذبة بين حين وآخر بهمساتها الشفيفة ولهفاتها آملة إيصالها إلى القمم الشم التي تشملها بحنوها.. فهي من سنوات خلت تضم في أفيائها رفات أمير الجاف الذي مات خنقاً، وهي في الوقت نفسه صارت الأذن المصغية إلى عويل ونحيب النسوة ومواكب المعزين والمنكوبين من فرسان العشيرة ورجالاتها، وما إن تبدأ نسيمات كويستان الباردة بالتململ وهي تبعث في النفوس وخزات رقيقة وتأخذ وريقات الأشجار تحت الخطى لطبع قبلات الوداع على الأرض، حتى تأخذ العشيرة بحمل عصا الترحال باتجاه الجنوب، نحو سهل شهرزور ووادي قرداغ حيث التوزع والانتشار» (ص27).إن بإمكان الروائي الجاف أن يؤنسن الفضاء المكاني (الجبل) ويحوله من كائن جامد إلى مخلوق نابض بالحيوية والدفق، مشع بالجمال زاخر بالجماليات الفذة.وتشكل قبيلة الجاف التي سرد الروائي سيرتها ومسيرتها، صنواً فريداً مع الأرض، ويبدوان توأمين تنبثق من خلالهما الأحداث الكبرى في ذلك الزمن الذي لم يحدده الروائي، وكان حرياً به أن تدوين تاريخ اغتيال الباشا، فهذا له علاقة وثيقة مع تشكيل الفضاء القصصي أو الروائي الذي يتشكل به السرد ويتكامل.ولا شك أن الجبل (لا كردي أو تاريخ كردي بلا جبل!) هو مكان مفتوح كفضاء سردي، لكنه مغلق كأطر حياتية وتفاصيل يومية، من خلال قرى قد تسكن كلاًّ منها عائلة واحدة فقط، فينغلق المكان اجتماعياً وعشائرياً، بينما الجبل في الحقيقة مفتوح بأجوائه وقممه ووديانه وسفوحه.قبيلة الجاف كما يبدو واحدة من القبائل البدوية الكردية، وهي إلى جانب مكابداتها ومعاناتها المستمرة مع الأطماع الخارجية (الفارسية الإيرانية، التركية، الإنجليزية)، والأطماع الداخلية والعداوات التي تشعلها بعض القبائل الكردية ضدها، تبدو في حرب مع الطبيعة التي تضطر أبناءها بين حين وآخر للّجوء إلى خضرة سهل شهرزور ومياه قرداغ وجمالها البهي:«ويبقى مقرّ أمير الجاف في ظلال شجرة جدّه عند موقع (دزي آيش) ليراقب عن كثب مرور قوافل الأفخاذ عبر مضيق (بيكولي) ووصولها إلى سهل (ببوار) وشيروانة واستقرارها في أماكنها المعتادة. حينئذ يلملم المقر المضيف بقاياه ويبدأ بالمغادرة وهو مطمئن على أحوال العشيرة برمتها» (ص27).إن إغفال الروائي للفضاء الزمني في الرواية، جعل استراتيجية (الزمكان) تشتغل على جانب أحادي من الفضاء الروائي. أما الشخصيات في الرواية، فتعد من أكثر العناصر فاعلية في بناء الرواية، كونها العنصر الوحيد الذي تتقاطع عنده العناصر الشكلية، وتتأتى أهميتها المتزايدة من قدرتها على الكشف عن الصلات العديدة بين ملامحها الفردية، وبين المسائل الموضوعية العامة، بمعنى تمكنها من خلق فضاء روائي واصل بين ما هو ذاتي وموضوعي، أو خاص وعام، فتبدو مشكلتها انعكاساً لمشكلة إنسانية.يشتغل الروائي خسرو الجاف على تصنيع أنواع خاصة من الشخصيات تتجرد من الخيال والفانتازيا واللا مألوف، شخصيات تشتغل على الواقع قادمة من أحضان التاريخ القريب للمنطقة قد يتجاوز نصف قرن أو أكثر من ذلك، ولم يسعفنا الروائي بتحديد الزمن بدقة، تاركاً مخيلاتنا تتصور تلك الأحداث وتتوقع زمن حدوثها.الرواية مليئة بالأحداث التي تفور وتتقولب بقالب جديد كل يوم، فلم تكن قبيلة الجاف مستقرة هانئة في ربوع ثابتة طوال تاريخها، بل كان عليها أن تقاتل الطبيعة والأعداء المنتشرين حولها في كل مكان، لذلك كانت القبيلة تخضع لنظام اجتماعي وأخلاقي صارم وحديدي كان الأساسَ في بناء قبيلة كردية لها تاريخها الخاص، وهذا ما نستقرئه من خلال هذه الرسالة الجوابية:«إلى حضرة باشا الكرد وسيدهم أحمد باشا بابان.. بعد تقبيل أياديكم.. كان جدي وأبي وأمراء الجاف كلهم ومنذ زمن سحيق في القدم منخرطين في الجيش الباباني رماة رماح وكذلك يتلقونها بصدورهم، وبما أننا أحفاد أولئك، تجدوننا سائرين في النهج نفسه.. إننا نحن الجاف ومنذ أن وُجدنا على هذه الأرض، ننتخب رئيسنا بأنفسنا ووفق مصالحنا، وهذا حقنا الطبيعي، ولم يحدث أن فرض علينا أيّ باشا من البابان رئيساً بالقوة، وعلاوة على ذلك كله فإن كيخسرو بيك له من يرثه من الأبناء من بعده والحمد لله» (ص86).هي رسالة نارية تتفجر حمماً، رسالة تحدٍّ مبطن، لكنها على الرغم من ذلك رسالة شريفة مؤدبة، بين قائد قبيلة وزعيم قبائل، ورغم مشروعية هذه الرسالة إلا أن بابان لم يرض عنها وبدأ يحوك لمحمد الجاف المؤمرات:«- هذا معناه أنهم قد أجابوا عن الرسائل.. طيب.. ما العمل الآن.. وكيف أتصرف معهم؟- تريث إذاً.. المسألة في منتهى السهولة.- كيف؟- ابعث إلى محمد ليجيء لزيارتكم ثم اعتقله..- أخشى من عدم مجيئه.- لا يمكنه الرفض، فهو يرى فيه عيباً، والجاف من دونه لا يذعنون لأمرٍ كهذا..- بعد عودتي من هاورامان سألقنهم درساً قاسياً» (ص86).هكذا تشكلت السيرة الذاتية لقبيلة الجاف؛ فرادة في التصميم، شجاعة في المبدأ، وبطولة في الموقف.الشخصيات في رواية «قتلوا الباشا» مزيج إنساني غير متجانس، ففيهم الأمير وفيهم الخادم، وفيهم المخلص وفيهم الخائن، وفيهم التابع وفيهم المتبوع.. لذلك حاول منظرو الشخصية فهم سلوك الإنسان عن طريق التمعن في العلاقات المعقدة بين الجوانب المختلفة لوظائف الفرد التي تتضمن التعامل والإدراك والدافعية. وعلى الرغم من اختلاف تعريف الشخصية، فإن هنالك شبه إجماع من وجهة النظر النفسانية يشير إلى أن الشخصية هي «بناء فرضي»، بمعنى أنها تجريد يشير إلى الحالة الداخلية والبيئة للفرد».لا شك أن الروائي خسرو الجاف لم يعانِ كثيراً في تشكيل شخصيات روايته، فالرواية ليست من الخيال العلمي أو الفانتازيا أو أي تشكيلات أخرى غير واقعية، بل إن شخصيات روايته جاهزة واقعية حقيقية، لا تنقصها سوى أمانة السارد وقدرته على صنع حبكة حقيقية من الواقع إلى الواقع. وإذا كانت شخصية الباشا هي المحور الرئيس الذي تدور حوله الأحداث والشخصيات جميعها، فإن هناك قائمة طويلة من الشخصيات المختلفة التي تتحرك بحرية على مسامات النص، مشكلة أنماطاً من القصة أو الأحداث في الرواية: قصة الحدث، وقصة الشخصية، والقصة الدرامية. ورواية «قتلوا الباشا» تشتغل على نمطين من الحدث؛ الأول: قصة الحدث، والثاني: قصة الشخصيات. فالحادثة الكبرى في النص هي اغتيال الباشا، أما ما يتشكل حولها من أحداث فليس بخطورتها وأهميتها، فهي هوامش أو ظلال أو أسباب أو نتائج للحدث الأعظم (قتل الباشا) على الرغم من أن الروائي قد اصطحبنا في رحلة إدهاش وتعجب إلى تفاصيل مثيرة في تأريخ هذه القبيلة العصامية.الشخصيات في الرواية أمثلة إنسانية جادة ورصينة ولها حضورها، ومنها مثلاً شخصية «كيخسرو بيك» التي يشير إليها الروائي بلقب «الأمير». وما تلبث الشخصيات الأخرى أن تنبثق وتتوالد من عمق الأحداث وتبلورها المتسارع، فتظهر شخصية «المستر ريج» ممثل ملك بريطانيا: «وصل المستر ريج ورفاقه.. ترجلوا.. نهض الأمير مسرعاً للترحيب بهم آخذاً (ريج) بالأحضان وسار به إلى حيث الظلال وجلسا.. أما موكب النسوة فقد استمر في مسيره إلى حيث مضارب العشيرة..التفت (ريج) إلى كيخسرو بيك وقال: - أظن أولادك؟أجاب الأمير وهو يؤشر: هذا سليمان، وذاك قادر، وذلك عبد الله، وهذا أصغرهم محمد» (ص12-13).تنتقل الرواية بذكاء السارد وعوامل إبداعية أخرى بين النص السير ذاتي والرواية التاريخية بكل شفافية ودقة، بحيث أن الروائي لم يظهر في النص السردي بشكل أو بآخر إذا قلنا إنها رواية تاريخية، ولم يشكل شخصاً أو رمزاً إذا كان النص سير ذاتياً، أي أنه لم يظهر وهو واحد من شخصيات بيت الجاف، في الرواية التاريخية أو النص السير ذاتي، ولكن المتمعن في هذا النص الروائي، سيجد خسرو الجاف حاضراً في كل حرف من حروف الرواية، فهو السارد/ الناص/ المؤلف، وهو صانع الرواية والشاهد على أحداثها ووقائعها وتفاصيلها.إن السرد يعني الطريقة التي تروى بها الرواية وخضوعها لكثير من المؤثرات منها ما يتعلق بالعناصر الفنية، ولا بد من معرفة علاقة الراوي بالأحداث والشخصيات والوسائل التي يستعين بها لإيصال المعلومات إلى القارئ. فالقصة أو الرواية لا تحدَّد بمضمونها وحسب، ولكن أيضا ًبالشكل والطريقة التي يقدَّم بها ذلك المضمون. وهذا ما يقود إلى التعرف على زاوية الرؤية عند الراوي والتقنية التي يستخدمها للحكي لتوصيل أفكاره وتأثيرها في المتلقي. فالسارد المتكلم يحظى بدور بارز في إدارة اللعبة السردية داخل متاهة الحكي بوصفه تمظهراً لافتاً ومكوناً أصيلاً في بنية السرد القصصي، وغالباً ما ترتد حركات السارد المتكلم إلى وجهة نظر المؤلف (الرئي) التي هي في سياق معاينته الحيز المكاني «مشابهة لحركات آلة التصوير والكاميرا في الفيلم، التي تقدم مسحاً تتابعياً مشهد معين»:«وارتفعت أصوات قرع الطبول تملأ الآفاق، إنها مهرجانات الفرسان الذين اعتلوا صهوات جيادهم وهم ينتظرون (ريج) وأمير الجاف، وما إن بدأ الموكب بالتحرك صوب مضارب العشيرة حتى راح الفرسان أربعة في إثر أربعة في ممارسة الألعاب الرياضية، وأخذ الآخرون يلصقون أجسادهم على جهة واحدة من بطون جيادهم المنطلقة كالسهام وكأنها جرداء من أي شيء.. وترى آخرين وهم منتصبون على ظهور خيولهم يؤدون حركات دقيقة تتسم بالخفة والاتزان». أليس هذا تصويراً سينمائياً من خلال كاميرا ذكية لمشهد إنساني خلاّب؟لقد كان الروائي خسرو الجاف أميناً على تأريخ الجاف، صادقاً مبدعاً في تقديم نص روائي استثنائي، فيه كل التقانات التي لها القدرة على تشكيل رواية سير ذاتية قادمة من أيام ناصعة لتاريخ قبيلته التي أنجبته من عزيمتها وفرادة شخصيتها الفذة.