عادة ما تقوم الأمم الحية بمراجعة مسيرتها لتعزيز الإيجابي منها ومعالجة نقاط الضعف، وتجاوز الخلل الذي أصابها، إلا الامة العربية، والتي بالرغم من أنها تعد من أكثر الأمم حيوية وتجدداً، وتعتبر أمة حية بكل المعايير الحضارية والإنسانية، إلا أنها تصر بعناد منقطع النظير على الإخلاص المطلق لرؤى جلاديها وخطط كل من تآمر عليها، وجوداً ودوراً ومستقبلاً.
فالأمة اليابانية نهضت من بين ركام قنابل» ناغازاكي وهيروشيما» والتي أصابتها في مقتل،
وتمثل ذروة حقد وضغينة الرجل الأبيض ضد كل ماهو شرقي. إلا أن اليابان إستطاعت أن تعيد رسم تاريخها وثقافتها وملامحها الحضارية رغماً عن المحتل، حتى وصلت المنافسة على المركز الثالث وأحياناً الثاني من حيث القوة الإقتصادية الكونية قبل أن تظهر القوة الصينية. ولم يلتزم اليابانيون بحرفية نتائج الحرب العالمية الثانية التي قيدتهم بتلك الشروط المهينة، بل تم توظيفها من أجل النهوض باليابان إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من تطور تكنولوجي وحضاري، حتى أضحت رقماً صعباً حتى في معادلات جلاديها.
والأمة الألمانية، وبالرغم من الدمار الذي أصابها في الحرب العالمية الثانية، وإحتلالها وتمزيق أوصالها، إلا انها وفي لحظة مراجعة للذات، قالت لا لأعدائها، وأعادت رسم خريطة دورها العالمي بعد تحطيم جدار برلين وتوحيد شرقها وغربها،حتى أصبحت رقماً صعباً في القوة الإقتصادية العالمية، بل وفي الدور السياسي الدولي. وحينما إتخذ الشعب الألماني قرار الوحدة، ورصدت ألمانيا الغربية ما يزيد على خمسين مليار مارك ألماني لإعادة تأهيل إقتصاد المانيا الشرقية، ليلحق بركب تطور الشطر الغربي، لم يكن في واردهم حسابات الربح والخسارة، ولا تصنيف الألمان حسب الفقر والغنى، بل كانت الوحدة الألمانية أهم بكثير من حسابات المصارف والنظرة الضيقة للتطور التاريخي و»الدياليكتيكي» للأمم والشعوب، وهو ما نعاني منه نحن معشر العرب.
والامتان الصينية والهندية، إستطاعتا أن تنهضا من كهوف الفقر والعوز إلى رحابة التطور والغنى، ومن دهاليز الإستقطاب السياسي والتفكك الفكري والديني والعقائدي إلى ذروة الوحدة القومية والتجانس العقائدي ووحدة المصير والهدف.
وكذلك الأمر بالنسبة لأمم أوروبا، فبالرغم من تناقضها التاريخي والثقافي، اللغوي والفكري
والمذهبي، وعدائها البيني، وعشرات السنين من الحروب السياسية والدينية والفكرية، إلا أنها راجعت حساباتها، وآمنت بأن مصالح شعوبها تكمن في الوحدة وإلغاء حتى الحدود الطبيعية بين وحداتها الساسية وشعوبها، فكانت ولادة الإتحاد الأوروبي الذي أصبح رقماً صعباً في الأسس التي تبنى عليها السياسة الدولية الراهنة.
إلا الأمة العربية التي لا تقرأ التاريخ جيداً، ولا تعيد حساباتها بناءً على أية مستجدات، سواء أكانت إقليمية أم دولية، ولا تتعظ، لا من الماضي ولا من الحاضر، والمستقبل ليس له مكان في أجنداتها التي لا تتعدى يومها المعاش.
فكل الأمم وضعت جانباً مآسي الأمس وإرهاصاته، إلا نحن معشر العرب، فـ»سايكس-بيكو» وزيرا خارجيتا بريطانيا وفرنسا اللذان خطا-بشد الطاء- ذلك الحد لكل طموحاتنا القومية والوحدوية، فارقا هذا الدنيا قبل عقود طويلة، لكننا ما زلنا مخلصين لـــ» مبضعهما» الذي أصاب أحلامنا الوحدوية في مقتل. وبهمة إقليميتنا وجغرافية تفكيرنا، جعلنا من خطوط الطول والعرض الوهمية حدوداً دولية غير قابلة للتصرف. وحتى رجالاتنا الذين حاولوا إحياء روح الوحدة في الأمة وقضوا في سبيلها، وأحياناً بأيدينا، لم نأخذ العبر من تضحياتهم الجسام، ونعيد قراءة بصيرتهم الثاقبة والظروف التي أحاطت بمسيرتهم...وللحديث بقية...!
[email protected]