نواصل إبحارنا، في عوالم شخصيتنا الوطنية، ومكونات هذه الشخصية والمؤسسات المكوّنة لها، ومدى حفاظها على هذه المكونات، من خلال أداء المؤسسات المكونة للشخصية الوطنية ولأدوارها في الحفاظ على هذه الشخصية وإثرائها. وقد لمسنا في المقالات السابقة حجم القصور في أداء الكثير من القطاعات والمؤسسات بواجبها نحو الحفاظ على الشخصية الوطنية الأردنية، وإثراء مكوناتها، ومدى التغيب الذي لحق بهذه الشخصية جراء ذلك. ونتوقف اليوم عند الثقافة كمكوّن رئيس من مكونات الشخصية الوطنية، والحفاظ عليها وإثرائها والتعبير عنها. فكل هذه أدوار يفترض في الثقافة الوطنية ان تقوم بها نحو الشخصية الوطنية؛ فإلى أي حد يتم ذلك في بلدنا؟.
إن الجواب على هذا السؤال يثير في النفس الكثير من لواعج الأسى والحزن. لأن الثقافة بشكل عام، وبكل مكوناتها تقبع في آخر سلم أولويات مؤسساتنا الحكومية والأهلية، وكذلك الحال عند الأفراد، خاصة على صعيد الموازنة والتمويل إلا من رحم ربي. ولذلك فإن الكثير من أدوات الثقافة، معطلة عن أداء دورها في خدمة شخصيتنا الوطنية، ومن ثم إثرائها والحفاظ عليها، وخاصة على صعيد تناولها بالدراسة والتحليل. فالأمثال الشعبية الأردنية على سبيل المثال تكاد تكون مهملة وقابعة في زوايا النسيان. رغم ان مضامين جلّ هذه الأمثال غنية بالقيم التي نحتاج إليها في هذه المرحلة العصيبة التي يمر بها بلدنا. خاصة في مجال التكاتف والوحدة وفي مجال الإنتاج، والحث على العمل، والبُعد عن التبذير والإسراف. آخذين بعين الاعتبار ان المثل الشعبي هو خلاصة تجربة الشعوب وحكمتها. ومن ثم فإن إهمالها يعني إهمالاً لهذه التجربة ولتلك الحكمة. ومن ثم قطع الشعب عن جذوره وتجريد شخصيته الوطنية من قاعدتها وعمقها التاريخيين.
غير المثل الشعبي ومضامينه ودوره التربوي إن أُحسن توظيفه، كذلك الحكاية الشعبية، التي دخلت هي الأخرى عوالم النسيان في بلدنا، رغم ان جهوداً بذلت في القرن الماضي لجمعها وتوثيقها، ومن ثم توظيفها، غير ان البناء لم يتم على تلك الجهود، مما يجعلنا نتساءل: هل هناك جهات معنية بتغييب الشخصية الوطنية الأردنية من خلال تغييب أدوات الحفاظ عليها وتطويرها وتحقيق المزيد من إنضاجها؟ وهو سؤال لا بد من أن نتوقف عنده طويلاً، ونسحبه أيضاً على أدوار مدارسنا وجامعاتنا وسائر مؤسساتنا في بناء الشخصية الوطنية وخدمتها.
يقودنا الحديث عن الحكاية الشعبية إلى الحديث عن القصة القصيرة، والرواية الأدبية ودورهما في الحفاظ على الشخصية الوطنية وإثرائها. فهذان اللونان من ألوان الإبداع يلعبان دوراً مميزاً في الحفاظ على الشخصية الوطنية. وفي إثرائها وقبل ذلك في التعبير عنها. وفي هذا المجال تبرز لدينا تجربة نجيب محفوظ وآخرين من أدباء مصر وغيرها في خدمة الشخصية الوطنية لبلدانهم. فأين الروائيون وكتاب القصة القصيرة في بلدنا من هذه القضية. مع اعترافنا بجهود مميزة لعدد محدود منهم في هذا المضمار تبرز في طليعتهم الأديبة سميحة خريس والمرحوم زياد القاسم. غير ان هذا الجهد المشكور لم يُخدم بالشكل اللائق، خاصة من وسائل الإعلام، وسائر مؤسسات الثقافة لتشجيع آخرين للكتابة الإبداعية المستمدة من البيئة المحلية الأردنية، وبالتالي من الشخصية الوطنية الأردنية. ومع ذلك يبقى حال الرواية أفضل بكثير من حال المسرح في الأردن، خاصة في مجال خدمة الشخصية الوطنية الأردنية، والتعبير عن همومها وتطلعاتها رغم ان المسرح هو أبو الفنون، ورغم انه يجب ان يكون الأقرب إلى نبض الناس والتعبير عنهم آمالاً وآلاماً، وهو ما لا يتم في الأردن، لأسباب كثيرة لعل في طليعتها: غياب الرعاية للمسرح بشكل عام، وانصراف الكتاب عن التأليف المسرحي المعبر عن هموم الأردنيين، باستثناء بعض الأعمال الكوميدية التي تعالج قضايا آنية يغلب عليها الطابع السياسي.
لا نريد في هذا المقال ان نتقصى خدمة سائر ألوان التعبير الثقافي للشخصية الوطنية الأردنية لندلل على حجم القصور في هذه الخدمة. لكنها مجرد نماذج تؤكد جميعها أولاً على تدني الاهتمام الرسمي والأهلي بثقافتنا الوطنية، ومن ثم الاهتمام بدور هذه الثقافة في الحفاظ على الشخصية الوطنية الأردنية وإثرائها وهو قصور وتقصير نساهم جميعاً فيه على الصعيد الفردي والصعيد الجماعي. فهل نعالج هذا التقصير لنسد باباً من أبواب تغييب الشخصية الوطنية؟.
* [email protected]
