توجّه إلى المطبخ فور عودته إلى البيت، وظلّ يبحث لاهثاً داخل الخزائن حتى وجد ما أراد، حبّة عدس واحدة ... ثمّ انطلق خارجاً وبيده ورقةٌ بيضاء، ليجلس في الباحة تحت الشمس، واضعاً « العدسة» على الورقة، منتظراً المفاجأة الكبرى المتوقّعة كما سمعها من معلّمة العلوم، إذ قالت إنّ للعدسة قدرةً على تكثيف الضوء حتى يتحوّل إلى حرارة كفيلة بحرق الورقة ... وجلس طويلاً محدّقاً في الورقة، لكن لم تحترق، بل احترق رأسه هو حتى وجدته أمّه بعد حين محروراً متعرّقاً منهكاً، وقادته إلى الداخل دون أن تفهم ما كان يجري !
اعترافٌ سمعته مؤخّراً من أحد الأصدقاء في جلسة استذكارٍ لأيام الطفولة، حين كانت البيئة المدرسية فقيرة لا تسمح إلا بالشرح النظريّ البائس الذي أوقع الصديق بالمطبّ الطريف إيّاه . ممّا دفعني بالمقابل لتذكّرحكايتي وزميلاتي في المرحلة الإعدادية مع معلّمة العلوم أيضاً، إذ كان الدرس يدور حول نظرية فيزيائية... ولمّا لاحظت أنّ ملامحنا تنمّ بعدم الفهم، وجدناها تنادي بشكلٍ مفاجىء على الآذنة التي كانت تشطف الممّر أمام غرفة الصف، ثمّ لتستعير منها الدلو المعدني الصدىء الممتلىء بالماء، لتربط حمّالته بخرقةٍ استعارتها من العاملة أيضاً ، ثمّ لنراها تقف في المساحة الفسيحة بيننا وبين الّلوح، وتبدأ بالتلويح بالدلو بسرعة وحماسة محاولة إعطاء حركته وضعاً دائرياً، حتى نتيقن نحن أنّ المياه لن تنسكب منه بسبب نظرية « الطرد المركزي « ... وانتهى الأمر بأن أفلت منها الدلو وطار مرتطماً بالباب ... لنفيق نحن من الصدمة مبتلاتٍ بمياه الشطف !
أمّا دروس الّلغة العربية لم تكن تخلو مثلاً من عقابٍ تقليدي عتيد اسمه « النسخ» ، أي إعادة كتابة وحدة كاملة مراتٍ عديدة، وأشهدُ أنّنا مديناتٌ لذلك العقاب حتى اليوم، إذ ساعدنا على امتلاك خطوطٍ واضحة مفهومة مخلصة لرسم الحرف العربي كما يجب أن يكون . وأذكر بالخير الكثير المعلّمة التي شرحت لنا بعض أبيات « عنترة» و «طَرَفة بن العبد»، ثمّ شعر «عمر بن أبي ربيعة» فلم تلحظ التجاوب المطلوب ، حينها كلّفت بعضنا برسمٍ تخيّليّ لكلٍ منهم ... هنا اضطررنا لفهم أزمة عنترة، وتهوّر طَرَفة، ووسامة أبي ربيعة ... إذ أذكر أنّ كلاً منّا رسمته شبيهاً بممثل السينما الذي كانت معجبةً به !
باختصار، كانت بيئات مدرسية فقيرة محدودة، لكنّ الخيال كان غنيّاً ولا يعرفُ حدوداً ... لذلك كلّه قد نسأل دون أدنى محاولة للانتقاص من قدرات الأجيال الجديدة ووعيها، ماذا سيقولون عن مدارسهم بعد عقود من الزمن ؟ أيّ نوع من الحميميّة سيوّثقونها في تجاربهم الحاليّة مع الحواسيب والمختبرات والتقنيات الالكترونية والمولات ... (أموت ) وأعرف !
