يُقال : الأشجار تموت واقفة ... ربّما، لكن هل ننسى عبث الأعاصير بها ؟ هل نتناسى أنّ الأشجار يمكن أن تُقصف ... أن تُخلع ... أن تكّسر أغصانها وتُشوّه ؟ هذا ما نفعله في بعض الشخصيات الإنسانية الباسلة الباسقة الشامخة أحياناً، فلا كائناً يستعصي على دائرة الشرّ إن أطبقت عليها، وللشرّ جولةُ جولات، ولدوائره الخانقة ضحايا قد يُجتثون من جذورهم دون أن يُسمع لهم صوت !
وبعد، هل نعيد النظر في المقولة إيّاها؟ ليس لنفيها، بل لتوضيحها، لنذكّر أنّ موت الأشجار وقوفاً هو ترفٌ قد لا تحظى به إلا الأشجار المحظوظة فقط !
* * *
نمرّ أحياناً بلحظات يأس، أو إحباط، أو خذلان ... نحتاج خلالها إلى من يسمعنا، أو إلى من يسمح لنا بأن نسمع أنفسنا ... ومن العبارات الممّلة التي قد يكرّرها الآخر على سمعك : أنت قوّي، ثق بنفسك ... أو : شدّ حيلك وانهض من جديد، إيّاك أن تستسلم ... أو : أنت أقوى من الظروف، لا تستسلم للحزن واليأس ... أنت فولاذي، أنت جبّار، أنت الرجل الخارق ... أنت الرجل الأخضر !
وتكتشف أنّ تأثير كلّ ما سبق من الخُطب المبتورة العصماء، تاثيرٌ محدود يلفّ بك حول نفسك بحمق ليلقيك من جديد في مرّبعك الأوّل، في بؤرة الغمّ التي تطبق على روحك ... وأسأل، لم لا يُقال : ابكِ كما شئت، لابأس عليك، عِشْ ضعفك، لا تقاومه الآن، ارثِ لنفسك قليلاً، لابأس ... تنفّس حزنك، اصرخ، غمغم بالشتيمة التي تشتهي ّ... باختصار، لعلّ هذا ما نحتاجه حتى ننهض من جديد .
إلهي ما أحوجنا إلى معايشة لحظات ضعفنا الحقيقيّة حتى نتذوّق لحظات قوّتنا اللاحقة، لنمضي ونواصل المشوار أنقياء من العتمة الداخليّة التي إن قمعناها، قادتنا، بقيّة حياتنا، إلى أنفاق مظلمة طويلة لا نهاية لها !
* * *
داخل كلّ فنّان طفل ، وفي داخل كلّ طفلٍ فنّان ... في الحالة الأولى، نصمت ونسلّم على اعتبار أنّ الفنون جنون، فنترك الفنّانين يهيمون في دنياهم كما يشاؤون، أمّا في الحالة الثانية، فمعظم ما نمارسه من تعامل مع الأطفال يتمحور حول اغتيال الفنّان الذي بداخل كلٍ منهم، فنعمل بجدّية وإصرارٍ ومثابرة على تحويلهم إلى شيوخ وقورين رصينين هادئين ... ليس لأجل عيونهم، بل لأجل راحتنا نحن !
* * *
يُقال : الاعتراف بالذنب شرف، والاعتراف بالضعف قوّة، والاعتراف بالخوف شجاعة ... وأقول : الاعتراف بالحبّ غيمة ياسمين نظلّل بها الآخر ... وحفنة ضوء ودفء نهديها لبرد لياليه ... وأقواس قزحٍ تلوّن أيامه ...
الاعتراف بالحبّ دعوة إلى زيارة غابة فراشات ... والتجوّل في حقل خزامى ... والسكنى في القلب الذائب اشتياقاً ولهفة !
الاعتراف بالحبّ فضيلةٌ لا يقوى عليها إلا القادرون على معانقة الفرح القليل في زمن الحزن المستديم !
