الفصاحةُُ وحُسنُ البيانٍِ .. في لُغةِ الأرقامِِ ..!

الفصاحةُُ وحُسنُ البيانٍِ .. في لُغةِ الأرقامِِ ..!

ابراهيم كشت - يقول أهل اللغة والبيان في معنى « البلاغة « إنها : (مطابقة الكلام لمقتضى الحال) ، ويقولون كذلك إن البلاغة هي : (إصابة المعنى) ، ويعتبرون الكلام بليغاً إذا لم يكن فيه إيجاز مُخلٌّ ، أو إطناب مُملُّ ، فالقـول البليغ يكاد يقترب من الكمال ، بحيث لو حذفتَ منه لفظاً ، أو أضفت إليه كلمة اختلَّ معناه ومبناه ، والبلاغة مشتقة من الفعل (بلغ) الذي يعني الوصـول إلى الغاية ، والغايـة هنا ـ بالتعبير الحديث ـ هي وصول الرسالة اللفظية من المرسل إلى المتلقي بكل وضوح ، ولأن البلاغة تتضمن في مدلولاتها كل هذه المعاني الكبيرة ، فإنها توصفُ عادة بحُسن البيان ، والفصاحة ، وقوة التأثير .والحقيقة ، إني حين أسمع لفظ البلاغة ، وتتداعى إلى ذهني معانيها السابقة ، فإنـي أَربطها بلغة الأرقام أكثر مما أربطها بلغة الحروف ! أعني أن الأرقام تكـون عادة أقرب إلى مفهوم البلاغة من الكلمات والعبارات ، فلدى الأرقام الصحيحة قدرة رهيبة على إصابة المعنى ، وهي الأقدر كذلك على النطق بما يطابق واقع الحال ، كما أنها أكثر اتصافاً بالإيجاز والتوجّه المباشر نحو الهدف من أي تعبيرات أخرى .الأَرقام لا تتقمّصُ حالة المتكلم النفسية ..الأرقام مجردة بطبيعتها ، فلا يمكن استخدامها مع ضمير المتكلم أو المخاطب أو الغائب ، ولا تستخدم مع صيغ التعجب أو الاستفهام أو الاستنكار أو الشك ، وهي تقوم بذاتها ، ولا تتقمّصُ حالة المتكلم النفسيّة أو مشاعره أو مواقفه ، ويتعذّر لفظها مشحونةً بالحب أو الكره أو التعصّب أو التفاؤل أو التشاؤم . ومن الممكن أن يتم اختصار عشرات الحقائق في رقم واحد ، وأن يتم تصوير أهمية وقائع متعددة بأرقام قليلة . والأرقام تُعبّر فـي معظم الحالات عن النتائج ، ولا تلتفتُ كثيراً إلى التفاصيل الجزئية غير ذات الأثر .أما الكلام (أي لغة الحروف) فإنه يقبل المطَّ والإطالة والإسهاب والإطناب بطبيعته ، وله قدرة على التضخيم والتفخيم ولو بالنفخ في الفقاقيع ، وللكلام كذلك قدرة على إرسال الطنين والرنين ، ولو بالنّقر على الأجوف الفارغ ، إنه الأقدر على الجعجعة دون طحن ، وإرسال البرق والرعد دون أن يرافقهما أو يتلوهما الغيث أو حتى الرذاذ ، وفي الكلام كذلك استعداد جُرميٌ كامن ، يجعله قادراً على ارتكاب الجرائـم المنطقية (المغالطات) ، وإخفاء جرائمه وسترها ، بحيث لا يتبينها إلا الحصيف الفطين .حين نتوهّمُ بلوغَ الهدف .. بمجرد حديثنا عنه !أخطر ما في الكلام قدرته الرهيبة على بعث الإحساس الكاذب بالإنجاز ، وقدرته على أن يُشعر المرء بأنه بلغ الهدف بمجرد حديثه الطويل المتواصل عن ذلك الهدف ، وأنّهُ يعيش التقدم أو النصر أو الحرية أو الديموقراطية أو حقوق الإنسان ، إذا أطال الحديث في هـذه الموضوعات وأطال السماع عنها ، وأنه عمل وأنجز إذا أطال النقاش في موضوع العمل ، وكتب المذكرات وطرّز الرسائل والمخاطبات .أما الأرقام فهي الأفصح لساناً ، والأبلغُ قولاً ، والأقدر على التعبير والتصوير والتفسير والتقرير ، وهي الأكثر جزالة والأشد إيجازاً ، والأبعد عن خدمة المآرب النفسية الواعية واللاوعية ، إنها الأقدر على النطق بالحقيقة ، والتمييز بين الغث والسمين ، والخبيث والطيب ، والحابل والنابل ، والثرى والثريا . وهي الأسهل فهماً لمن يبحث عن الحقيقة ، كما أنها الأقرب إلى المنطق الذي لا ينفصم بماهيته وقواعده عن قواعد الأرقام وطبيعتها .التفكير الكمّي والتعبير بالأرقام ..التعبير بالأرقام ينتج عن التفكير بصورة كمية ، وهو تفكير يزيد من إدراكنا لحجم الأشياء ومقدارها وتأثيرها ، مما يجعلها مجسّدةً في أذهاننا كأنّها محسوسة . كما أن القياس باستخدام الأرقام يتيح لنا مجالات المقارنة ويسهِّلها ، ويختصر الحقائق ويوضّحها ، ويقضي إلى حد بعيد على التخبط وسوء التقدير ، ويصحح من مسار التفكير ، ويتيح معلومات أدقَّ ، وأنفع وأقرب للحقيقة والموضوعية .كما أن أنماط التفكير والبحث والدراسة والحديث في كثير من نواحي الحياة ، إذا كانت بعيدة عن الأرقام التي تقيس وتحدد وتعطي الصورة الدقيقة ، فإنها تكون مغرقة في العموميات والمعاني الفضفاضة ، والأحكام المطلقة البعيدة عن الموضوعية ، وهذا ما تتميز به عادة طرائق الحديث والكتابة والتفكير في المجتمعات النامية .لكن الأرقام قد تكذب أيضاً .. ينبغي أن نتذكر ، عند الحديث عـن الأرقام وعن التعبير من خلالها ، أن مشكلة « الكيف « تسبق مشكلة « الكم « فقبل أن نقيس ، يجب أن نعرف ما الذي نقيسه ، وكيف نقيسه . وينبغي أن نتذكر كذلك أن أهمية فهم الأرقام لا تقل عن أهمية الأرقام ذاتها ، فالأرقام قد تكذب حتى لو كانت دقيقة ، وذلك حين نفهمها بصورة مغلوطة ، أو حين لا نوفّق في استقصاء مدلولاتها ، والمجال ليس متاحاً هنا لتفصيل حالات كذب الأرقام ، حيث يمكن الرجوع إليها في مباحث « المغالطات الرقمية « في كتب المنطق ، فهي توضح الطريقة التي قد تكذب بها النِّسب أو المتوسط الحسابي أو المقارنة أو العيّنات ، بما يؤكد أن فهمنا لمدلول الأرقام لا يقل عن أهمية الأرقام ذاتها ، وأن « الكم « ، رغم أهميته الشديدة ، فإنه لا ينفي أهمية « الكيف « .Kasht97@yahoo.com