لا ينبغي ان نبخس الناس اشياءهم، ولا ان نجحدهم فضلهم, وينبغي الى ذلك ان نتبين صدق ما نقول فيهم، التماساً للحق ومزاورة عن الباطل من جهة، ونشداناً لصواب الرأي فيهم ولإحاطة الشهادة باحوالهم من جهة اخرى.
يقول الامام القرطبي في مقدمة تفسيره الكبير «الجامع لأحكام القرآن» ان ابا جعفر الطبري سمع ابا عمر الجرمي يقول: «انا منذ ثلاثين سنة افتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه».
ثم ينقل القرطبي تعقيب «محمد بن يزيد» على ذلك حيث يقول: «.. وذلك ان ابا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث».
ثم قال محمد بن يزيد عبارته التي لا بد ان يتوقف اولو الالباب عندها، وهي قوله: «اذا كان كتاب سيبويه يٌتعلم منه النظر والتفسير..»
ولقد ذهب بعض كبار المفسرين الى ان «الكتاب»-يقصدون كتاب سيبويه-هو اكبر معين على فهم «الكتاب» الذي هو القرآن العظيم.
وسيبويه على اية حال عربي النشأة والثقافة، دفع منذ حداثته الى مجالس اهل اللغة والنحو، وكان النحو قد تأسس بأمر من الامام علي كرم الله وجهه (وفي رواية اخرى من الفاروق عمر)، وكان واضع مسوداته الاولى هو ابو الاسود الدؤلي. لكن عمل سيبويه فيه كان عظيماً وتقعيده له كان بالغاً في الدقة درجة جعلته موضع ثقة القدماء والمحدثين وتقديرهم، ذلك التقدير الذي ينصرف جله الى اساتذته العرب والى البيئة العلمية التي ترعرع فيها..
يقول الاستاذ محمود محمد شاكر في مقدمة كتابه: «رسالة في الطريق الى ثقافتنا» في معرض كلامه عن ارباب الكتب المتبدأة الموضوعة في العلوم المستخرجة، ولا سيما عن سيبويه الذي اتى «بضرب من النظم واللفظ اعيا من بعده ان يطلبوا مثله» وذلك كقوله في اول الكتاب: «وأما الفعل فامثلة اخذت من لفظ احداث الاسماء وبنيت لما مضى، وما يكون ولم يقع، وما هو كائن لا ينقطع».. يقول العلامة المحقق ابو فهر هنا ما قاله عبدالقاهر الجرجاني من قبل: «لا نعلم احدا اتى في معنى هذا الكلام بما يوازنه او يدانيه ولا يقع في الوهم ان ذلك يستطاع».
واذ نترك لمن يشوقه ان يقرأ مسوغات هذا الرأي في سيبويه» ان يعود الى كتاب الاستاذ شاكر المذكور آنفا او الى كتاب الجرجاني «دلائل الاعجاز» الذي حققه، فاننا نوجه نظر الناظرين الى ان النحو والاعراب قد ضمنا لاجيال امة العرب والمسلمين بقاء تراثهم الحضاري وكنوزهم المعرفية المكتوبة بلسانهم العربي المبين.
ثم ان العربية ليست اخلاطا وامشاجا من مورثات الصفات التي يمتاز بها قوم عن قوم، ولكنها «لسان» اي ثقافة ومناخ قيمي وليس يهمنا ان يكون سيبويه فارسي الاصل ما استقام له ان يكون عربي اللسان والذوق مسلم الوجدان، وكذلك الامر مع «ابن قتيبة الدينوري» الذي كتب «عيون الاخبار» و»تأويل مشكل القرآن» و»تأويل مختلف الحديث» و»كتاباً معروفاً في فضائل العرب. وكذلك الامر-فيما اعتقد-مع البويهيين الذين احيوا آداب العربية وكافأوا شعراءها ومترسليها وكذلك الامر مع كثير من الفرس الذين دخلوا في دين الله افواجا، واحبوا القرآن والحديث وكتبوا اجمل الاسفار بلغة الضاد، وجعلوها معرضا لعقولهم واذواقهم التي بعثها الله بالاسلام خلقاً جديداً..
ثم ان من حق سيبويه واضرابه من ابناء حضارتنا العالمية ان نقدرهم قدرهم اولا، ثم ان نفهمهم وما انجزوه حق الفهم، ولا سيما اذا كان دعوانا اننا نريد تجاوزهم، وكم في ذلك من جهل بهم وبانفسنا على حد سواء..