ثمة ألوان يتعدى تأثيرها، في ثقافات الشعوب، مجرد جمالها فحسب. فيتسلل ببطء، ولكن بعمق، إلى المعارف والأديان والعلوم والحروب، فضلا عن الأفراح والأحزان والتقاليد.. ومن ثم الرموز..!؟. اللون الأرجواني والقرمزي، وهما صنوا اللون الأحمر، يصعدان في البصيرة والنفس إلى بهاء باذخ، وغامض أيضا. فمن أية عروق معرفية استعار الأرجوان بهاءه وغوايته؟ وأية طبيعة تلك التي قذفت معارفها وبداهتها، منذ أقدم العصور، إلى ساحل المتوسط الشرقي، ليعرف أهلها، قبل غيرهم، طريق الأرجوان والقرمز..؟!. أميرات اليوم، قبل مئات السنين، كن يلدن في غرف مبطنة بالأرجوان، فصار مفهوم المولود في الأرجوان يعني صحة النسب الملوكي. وكان رئيس الكهنة، عند اليهود، يرتدي الأرجوان، رمزا لسلطته الدينية، كما يقول أسد رستم، في أبحاثه المبكرة. وفي الأوساط الجامعية المحافظة، ما يزال اللون الأرجواني هو لون دكاترة اللاهوت. كما أن أحبار الكنيسة الغربية ما يزالون يحرصون على ارتداء الأرجوان في المناسبات الرسمية. على طول الساحل الشرقي للمتوسط، من غزة إلى ما بعد رأس شمرا، هناك صدف الميريكس، الذي يسيل مادة حمراء عند الخطر، من أجل أن يضلل بها عدوه..! وقد لاحظه سكان ذلك الساحل، منذ القدم، واصطادوه، واستخدموا سائله في صباغة الثياب. وفي الأساطير اليونانية، أن هيلانة طروادة كانت تروح عن نفسها، مع كلبها، عند شاطئ البحر. فلاحظت أن فم كلبها، الذي كان يتلهى بصدفة، تغير لونه إلى لون أرجواني غامق. فأعجبها اللون وسرها كثيرا، ما حملها على اشتراط زواجها بمن يتمكن من اهدائها ثوبا مصبوغا بالأرجوان. وفي الأساطير أيضا، أن أول ثوب تمت صباغته بالأرجوان في مدينة صور اللبنانية قدمه هرقيل الهرما إلى عشتروت. والحقيقة، أن كل سكان ساحل شرق المتوسط عرفوا صباغ الأرجوان، واستخرجوه واتقنوا استعماله، وحظوا بشهرة واسعة، شملت العالم المتمدن في العصور القديمة. كما حرصوا على حماية هذا المورد الطبيعي من التلاشي والاختفاء، ففتشوا عن أجود أنواع الصدف المنتج للأرجوان في طول المتوسط وعرضه، واستوردوه من ميناء اسبارطة، ومن القريتين العتيقة والحديثة في تونس، اللتين تحولتا إلى مستعمرتين فينيقيتين. وقد جاء ذكر الأرجوان في نصوص أوغاريت رأس شمرا، وفي نص آخر يعود إلى العام ألف وخمسماية قبل الميلاد. في اللفظ اليوناني، فإن المفردة فينيكس/فينيقي تعني أحمر، ورغم ذلك، فما يزال اطلاق اسم فينيقي على سكان الساحل الشرقي للمتوسط سرا غامضا. فاللفظ أطلقه اليونانيون والرومانيون على سكان ذلك الساحل، وكذلك على سكان جزيرة كريت، الذين عرفوا هذا الصباغ واستعملوه. وليس هناك قيمة تذكر نتيجة تشابه اللفظ اليوناني فينيكس، وهو لفظ غير سامي، واللفظ في اللغات السامية فنق، الذي يعني التنعم والترف وليس اللون الأحمر. لهذا، فإن الاسم فينيقي يظل اسما غير سامي. كما ان معالجة الفينيقيين لصباغ الأرجوان، بعد استخراجه من صدف الميريكس، ما يزال أمرا خفيا. فاستخراج السائل الملون، من عرق من عروق الصدفة الحية، أمر غير يسير، إذ إن السائل يفسد إذا ماتت الصدفة الحية، ويجب استخراجه كاملا والصدفة على قيد الحياة. وبهذا، يتشابه سر غموض صناعة الفينيقيين للأرجوان، مع سر غموض صناعة الفراعنة لـالتحنيط. وما تزال المعارف عن الأرجوان القديم تدور حول وصفه، أكثر من دورانها حول ماهيته، فتحول إلى رمز للسلطة، يرتديه الأمراء والأباطرة والأحبار والكهنة، ويقتصر استعماله على الأوساط الثرية والمرفهة. ترى، أليس عجيبا أن تظل مصائر المنطقة ومقاديرها مصبوغة بـالأرجوان، الذي هو لون الدم؟ أو ليس غريبا أن تعود قناعات معظم سكان تلك المنطقة إلى أول أسطورة الأرجوان، بأن ساكن الصدفة الحي يفرزه، عند الخطر، من أجل تضليل أعدائه..؟!. [email protected]
