يرى ابن خلدون في الفصل الثاني والأربعين من مقدمته المعروفة «أن العلماء من بين البشر أبعدُ من السياسة ومذاهبها» وانهم «لأجل ما تعوّدوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض، إذا نظروا في السياسة افرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم؛ فيقعون في الغلط كثيراً ولا يُؤمَنُ عليهم».
ويلحق بالعلماء في ذلك، كما يرى ابن خلدون «أهلُ الذكاء والكَيس من أهل العمران»، وهم المثقفون في اصطلاحنا، وذلك «لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة، فيقعون في الغلط» أيضاً..
ويتمثل ابن خلدون في هذا السياق بقول الشاعرِ
فلا توغِلَنّ إذا ما سبحت
فإنّ السلامة في الساحِلِ
ثم يقول إن العاميّ السليم الطبع المتوسط الكيس (الذكاء) أقربُ إلى السياسة ومذاهبها من العلماء أصحاب النظر والتجريد المنطقي، وذلك لأنه «يقتصر لكل مادة على حكمها، وفي كل صنفٍ من الأحوال والأشخاص على ما اختص به، ولا يُعدى الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه».
فالعامّة إذن هم مَرَدُّ السياسة العمليّة على الحقيقة، لا العلماء ولا الفلاسفة ولا الفقهاء، أي أن مردها اليهم وإلى «الرأي العام» الذي يمثلونه، ولعل «زعماء السياسة» إنما يتمايزون بقدر ما يملكون من مهارات اتصال بهذا الرأي العام الذي يقتصر على ما يبدو له، لأول النظر، من الاحوال والاشخاص، ولا يذهب الى ما وراء ذلك.
فاذا زدنا على ذلك ان من شأن العالم والمفكر والفقيه ان يطلب حقائق الاشياء، وان يتحرى في التحقق من اسباب الحادثات، وان يبني احكامه على علم وتثبت ويقين بقدر ما في طرق الانسان، وان من شأن السياسي - على ما انتهت اليه السياسات في زمن ابن خلدون وفي زمننا هذا – ان يطلب المنافع واسباب التغلب، وان يتحرى اساليب استمالة الرأي العام» الذي يعجل في العادة الى اصدار احكامه دون تعمّق وتبصّر، ويؤخذ بما يوافق نزوعه الى التناول السهل للامور، فان محصلة ذلك تباين مؤكد بين الحق وأهله وبين السياسة – فيما انتهت اليه – وأهلها.
من اجل ذلك لا نستغرب ان يلعن الشيخ محمد عبده الفعل «ساس» وما يُشتّقّ منه. فهو ظاهرٌ – بما هو مثقف كبير ومجتهد – على وقائع كثيرة تؤكد وجهة النظر الخلدونية التي اساسها النظر في المتعيّن المحسوس من امر السياسة والسياسيين لا في ما ينبغي ان يكون عليه، او فيما قد يفترض العلماء والفلاسفة والفقهاء من منطق سديد ومراعاة للقيم العليا فيه.
لقد تم تحويل معنى السياسة، في مجرى الزمان، الى حقل دلالي مختلف، فبدل ان تكون تدبيرا وحفظا وتبصرا آلت الى ان تكون تدميرا واضاعة وجهالة ممكنة، فضلا عما فيها من الوان الخداع والتزييف والتلبيس، وكم تأسى لذلك القلوب وتحار الأذهان.