الخروج من اللعبة

تاريخ النشر : الجمعة 12:00 27-7-2012
No Image

غالب هلسا - تبدأ رواية كامو «الغريب» هكذا: «اليوم ماتت أمي، أو ربما ماتت الأمس، لا أدري، تلقيت برقية من مأوى العجزة تقول: توفيت والدتك، الدفن غداً، لك أصدق مشاعر الأسى. ومثل هذا القول لا يدل على شيء، ربما حصلت الوفاة يوم أمس».
وعندما استأذن «ميرسو» رب عمله للحصول على إجازة لمدة يومين، تصور أن رب العمل «لم يكن بادي الرضا»، فأردف «ميرسو»: «ليست تلك غلطتي!». وعندما سُئل في المحكمة عن سبب قتله البدويَّ، قال إن ذلك يعود لضوء الشمس المنعكس على خنجر البدوي، ثم انعكس على عينيه.
كيف نصف رؤية «غريب» كامو للعالم من حوله؟



نقول إنها رؤية تلغي المنظور، أو البعد الثالث، من الواقعة الاجتماعية، فتصبح ذات بعدين، أي مجرد صورة بصرية غير محالة إلى عمقها الاجتماعي، إلى بُعد التقاليد والقيم والمفاهيم التي صاغت العلاقات بين البشر وأقامت المؤسسات (العائلة، الدولة، القانون.. إلخ) التي تشكل بمجموعها الرؤية الكلية للذات وللمجتمع.
لذلك يعيش «ميرسو» حالة (العبثي-المضحك)، وأعتقد أن كلمة (absurd) التي تترجَم إلى العربية ب «العبثية» فقط، تعني الكلمتين معاً. ويرى كامو أن هذه الحالة التي يخرج بها الإنسان من القيم والمواضعات ليصبح فيها كل شيء بلا معنى، يصبح –هذا الإنسان– أمام خيارين: الانتحار أو الالتزام.
ومع كل أسف، فقد اختار تيسير سبول الانتحار. قد يعود ذلك إلى كون افتقاده للمعنى لم يكن ينبع من الذات، بل من الظرف المحيط به، كان يريد لشعبه الكبير أن يتب،ع أو حتى يطيع، صورة رسمها له في ذهنه. وعندما سار الواقع في مسارب غير متوقعة اعتبر ذلك نهاية العالم، وضياع المعنى منه إلى الأبد، وبذلك فقدنا موهبة كانت تَعِدُ بالكثير.

(1)
سيقتصر حديثي على رواية تيسير سبول الوحيدة «أنت منذ اليوم»، وسوف ندرس تقنية هذه الرواية الصغيرة المهمة.
الرواية عبارة عن لوحات قصيرة متتالية، لا يربطها زمن واحد، أو مكان واحد، تواليها يأخذ شكل المعلقة الجاهلية حيث يتم الترابط بين الأجزاء خلال التداعي، فتثير كلُّ صورة أخرى ترتبط بها لا عبر الزمان والمكان الواحد، بل عبر الذاكرة الخاصة بالشاعر.
يعني هذا أنها لا تلتزم مفهوم أرسطو عن الوحدة العضوية، التي تحتوي في داخلها وحدة الزمان والمكان والحدث. والرواية، بهذا، من الأعمال الأدبية القليلة التي تشكل خروجاً عن نمط الكتابة العربي السائد.
وللتداعي بين المشاهد دينامية خاصة، ما يُعاش في اللحظة، ما هو عياني ومباشر، يستدعي ذكرى قديمة. أي أن الوعي لا يجيء على مستوى واحد، فهو الحاضر، وهو التاريخ. والرابط بين المستويين عند تيسير، ينبثق من عنصرين: المفارقة والانفعال، فالعياني والمباشر قد يستدعي نقيضه في الصورة، كما يستدعي انفعالاً مشابهاً.
يعني هذا أننا أمام عمل أدبي يعتمد اللحظة الحية، المعاشة عبر تداعياتها التي تنفتح أمامنا على أكثر من مستوى.
ولا تقتصر هذه الدينامية؛ دينامية التداعي، على العلاقة بين المشاهد، بل تقوم أيضاً داخل المشهد نفسه، وعلينا أن نتأمل هذه التقنية جيداً، لأنها أهم ما قدّم تيسير سبول في تاريخ إبداعه الموجز والواعد.
لنورد مثالاً يسهّل علينا الحديث عن هذه التقنية، أو ربما كان علينا أن نستعمل مصطلح «الدينامية»:
«كان على الراوي أن يسكن مع شاب غريب الأطوار في حجرة.
صعدنا الدرج، وقدّمني إلى المجنون: أسمر، أصلع الرأس مع أنه شاب.
(الأخ من أين؟)، سألني. أجبت: (أنا بدوي).
فَهَشّ مرحّباً:
- الله يحييكم البدو، فيكم أصالة.
شكرته، وأخبرته أن الأصالة معدومة لدينا كما لدى غيرنا، وفهم أنني أتواضع فحسب».
المؤلف، هنا لا يتقمص الراوي، فالراوي جزء من اللحظة المعاشة، والمؤلف يستشرف الموقف كله. رغم هذا، فهنالك السخرية من الذات التي يستعملها الكاتب كثيراً، وهذا نادر، بل شديد الندرة في الرواية العربية. الروائي العربي، في العادة، يلجأ لتبرير الذات، وتزيينها عندما يختار شخصية أو شخوصاً ناطقين باسمه، أي أنه لا يستشرف اللحظة أو الموقف، ولكنه يغرق فيه.
هنالك عبارة بالغة الأهمية في هذا المجال ل «غاستون باشلار»، يقول فيه إن المبدع الحقيقي هو ذاك القادر على أن يسْخر من ذاته، لأن ذلك يعني، أولاً، التجاوز. إن السخرية من الذات هي القدرة على محاسبة الذات بتجرد وموضوعية، وسمة الأدب العظيم هي الموضوعية، ولا أدل عليها من أن يسخر الإنسان من نفسه.
دعونا نقرأ هذه الفقرة:
«قال –أي الراوي– للرفاق إنهم عانوا من نقص الكراسات العقائدية هناك وإنه يعترف بنقص ثقافته ويريد المزيد فطمأنوه وامتدحوا رغبته».
علينا أن نلاحظ أن الجملة خالية من النقاط والفواصل، وأن الأخيرة قد استُبدلت بها واو العطف. إنها بهذا تخرج من أسلوب الكتابة الأدبية وإيقاعها، وتتبنى أسلوب الكلام اليومي وإيقاعه. إن للسخرية من الذات ومن الآخرين، إيقاعاً داخلياً، يكشف عن رغبة في استجداء المديح، وقد تحققت هذه الرغبة: «فطمأنوه وامتدحوا رغبته».
أسلوب السخرية هذا يبلغ أحياناً مستوى جارحاً عندما يستعمل المؤلف فنية أخرى، ابتكرها، رغم أن «جون دوسبا سوس» قد سبقه إليها، لكنني متيقن من أنه لم يقرأ «دوسبا سوس».
يصف الحال بعد انفكاك الوحدة بين مصر وسوريا:
«ففرح بعض الشعب وابتأس بعض الشعب، وصمت كثيرون، غير أن المذيع طالب الناس ألاّ يحزنوا، ووعد بوحدة صحيحة تقوم بين كل العرب.
إلا أن هناك من لم يُصدّق، فبكى ما استطاع البكاء، ووُجد أفراد لزموا الفراش مرضاً، ثم أبلوا بعد يوم أو اثنين..».
السخرية هنا، تتولد من وضع سياق في القول بدلاً من سياق آخر. إن عبارة «وُوجد أفراد لزموا الفراش مرضاً، ثم أبلوا بعد يوم أو اثنين» ذات نكهة جسدية خالصة، واستعمالها يكون في العادة لإنسان أرهقه العمل، أو أصيب بالزكام، فلزم الفراش يوماً أو اثنين حتى يستريح أو يشفى.
هكذا، فإن إحالة مشاعر وطنية وقومية، إلى حالة جسدية خالصة، يجعل هذه المشاعر مضحكة إلى الحد الأقصى. يشبه ذلك أن نقول عن إنسان إنه كان شجاعاً، سميناً. إن اقتران الصفتين، المعنوية والمادية، يجعل وصفنا له مضحكاً.
نجد الشيء نفسه في فقرة أخرى:
«كفّ خطيب مسجد الجامعة عن مهاجمة الاشتراكيين والملحدين وكرّس خطبه لمهاجمة ملابس النساء القصيرة، وأمور أخرى تخصصية».
ان الانتقال من مسألة مهمة إلى مسألة تافهة وفي جملة واحدة، يجعل هذا الانتقال مضحكاً. هذا أولاً. والوسيلة الثانية التي يلجأ إليها الكاتب، هي تحويل الحديث المباشر إلى قول غير مباشر.. مثال ذلك قوله:
«غير أن المذيع طالب الناس ألاّ يحزنوا، ووعد بوحدة صحيحة تقوم بين كل العرب».. ثم يضيف: «إلا أن هناك من لم يصدّق فبكى ما استطاع البكاء».
المذيع، هنا، يُصدر أوامر لا يمكن أن تطاع، فطالب الناس ألا يحزنوا، وكأن الحزن يأتي بأمر، وينتهي بأمر مضاد. إن ذلك يشبه الملك الذي كان يحكم كوكباً صغيراً جداً لا يتسع لغيره في رواية «الأمير الصغير» لإكسوبيري، فعندما تثاءب الأمير الصغير «أمره» الملك ألا يتثاءب، وعندما قال له الأمير الصغير إنه لا يستطيع الامتناع عن التثاؤب، أصدر الملك أمره بأن يتثاءب، فقال الأمير إنه لا يستطيع ذلك أيضاً، فجاء الأمر الملكي: «تثاءب أحياناً».
كما أن المذيع يَعِدُ بما لم يكن قادراً على تحقيقه، وذلك بقيام وحدة صحيحة بين كل العرب. إنه يضحك في أوامره ووعوده، كما أن استجابة المستمعين كانت أشد إضحاكاً، فبدلاً من اكتشاف حماقة المذيع استجابوا بحماقة أشد، فكل منهم بكى «ما استطاع البكاء».
عندما نتأمل هذه الفقرة جيداً، نكتشف أن حماقة المذيع اتضحت لنا بسبب استعمال أسلوب القول غير المباشر. يكفي أن نعيدها إلى أصلها، أي نقل خطاب المذيع كما قاله، حتى يتضح لنا أنه فقدَ طابعه المضحك، وأصبح مجرد مادة إعلامية عادية لا تثير سخرية. هنا تكمن أهمية هذه التقنية-الاكتشاف، بجدتها في الأدب العربي، وفي قدرتها على التعبير عن موقف يثير الاستنكار.
إن كل خطاب يفترض مستمعاً، كما يقول «باختين»، أي أن القول لا يكتمل إلا بأخذ هذا الافتراض في الاعتبار، فما الذي فعله المؤلف؟ لقد ألغى هذا الافتراض، فبدا الخطاب مجانياً.

(2)
ربما كانت أهم هذه التقنيات وأكثرها كشفاً لموهبة المؤلف، هي تلك التي يستعملها في إقامة العلاقات بين المفردات التي تشكل المشهد. إن تلك المفردات تحال لا إلى بناء ذهني، ولا إلى الحبكة التي تقوم عليها الرواية، بل إلى رد الفعل الأول والمباشر: «ورغم أنني سمعت دائماً من يتحدث عن صفرة الوجوه الخائفة، لم يحدث أن رأيت وجهاً صغيراً كهذا مصفراً تماماً كقشرة ليمونة دون رداء القشرة».
كان يتحدث عن امرأة عجوز تحاول أن تعبر الجسر الذي دمرته الطائرات الإسرائيلية إلى الضفة الأخرى.
المؤلف، هنا، يقيم علاقة بين الذاكرة وبين الواقعة العيانية: صفرة الوجه الخائف، كما ترسخ في الذاكرة، وهذا الوجه الأصفر الصغير. إن لهذه العلاقة التي يقيمها المؤلف وظيفة أبستمولوجية (معرفية) محددة، فكل الأفكار المسبقة تحال إلى واقع محدد ليتم تأكيدها أو نفيها. إن قصاصاً مثل يوسف إدريس، مثلاً، يحاول دائماً أن يحطم قبْلِيّاتنا، أي أفكارنا الثابتة عن العالم، فالسفاح الرهيب في رواية «الغريب» نراه ينتحب لأن زوجته تخونه، ونشهد القاضي الوقور في «قاع المدينة» وقد تحول إلى مراهق يختلس النظرات إلى فخذَي الخادمة وهي تمسح البلاط.
هذه وظيفة أبستمولوجية، لأنها تكشف أن المعرفة ليست معلومات يُحشى بها الذهن، بل هي اقتراب تدريجي نحو الحقيقة، من خلال تحطيم أطر معرفية قديمة، انسلخت عن معطياتها الواقعية، واستبدال أطر جديدة انبثقت من الواقع لتوّها بها، وبعيارة أخرى إن المعرفة عملية متصلة تستمر إلى ما لا نهاية.
سوف نأتي بمثال آخر، يكشف زاوية جديدة من هذه التقنية التي تحكم العلاقات بين مفردات المشهد:
«على المصلّبات ترتفع لافتات الدعاية الانتخابية.
- صوت الإسلام تحت قبة البرلمان، انتخبوا..
- إليكم مرشح العمال والفلاحين، ممثل الكادحين..
- من أجل القضاء على الاستعمار والصهيونية، انتخبوا..
رأيت ملابس النساء في الفترينات، ألوانها عديدة وكلها معروضة بشكل خلاب».
إننا، هنا، أمام انطباعات أولى: اللافتات وملابس النساء، حاسة البصر أقامت العلاقة بين الاثنتين، يضاف إليها التشابه في الدعاية الصاخبة للمرشحين، والعرض الصاخب والحسي لملابس المرأة، وكذلك المبالغة في الاستعراض.
تستمر الفقرة هكذا:
«ورأيت مزيداً من اللافتات..
- من أجل حياة برلمانية ديمقراطية سليمة انتخبوا..
وتذكرت عائشة. لقد أضعتها إلى الأبد».
هنا أيضاً يتبع المؤلف توارد أفكاره، فضياع الحياة البرلمانية ذكّره بضياع عائشة.
نرى ذلك في حديث الشاب غريب الأطوار:
«شرح لي أن الزعيم لم يجبن، ولم ترتجف خلجة واحدة فيه حين واجه الموت، وأفاد في أن الزعيم أُعدم نصفَ واقف على ركبتيه، فدهشتُ، وكنت أعتقد انهم يُعدَمون واقفين».
ألا تذكّرنا هذه الاستجابة باستجابة «ميرسو» في رواية «الغريب»، حين أهمل المسألة الأساسية وهي موت أمه، وصرف انتباهه إلى اليوم الذي ماتت فيه، فهو يعلّق على البرقية التي تحمل نبأ وفاتها بقوله: ومثل هذا القول لا يدل على شيء، فلربما حصلت الوفاة يوم أمس».
فما دلالة هذا الانحراف عن الموضوع الأساسي؟
في السيرة الذاتية ل «غوركي»، يشهد الطفل دفن والده. يراهم يهيلون التراب في القبر المفتوح، فيأخذ في البكاء، وعندما يسألونه عن السبب يقول إنه يبكي لأنهم جرفوا الضفدعة مع التراب، فدفنوها، فأنّبته جدته وقالت إن عليه أن يبكي لموت أبيه، لا لموت الضفدعة.
الطفل، هنا، هو صوتنا الداخلي والحقيقي، لأنه يدلنا على الارتباط الواقعي لتداعياتنا. إن الضرورة التي تحتّم الارتباط بين موت الزعيم والإعجاب بشجاعته، وبين معرفة «ميرسو» بموت أمه والتفجع عليها، وبين موت الأب وبكاء الطفل، هي عملية خداع، يتم فيها إخضاع تداعيات تلقائية للقفص الحديدي للمواضعة الاجتماعية. عبر هذه المواضعة يصبح ما يحدث واجبَ الحدوث، أي أننا نلغي تلقائية الحياة، لمصلحة القيم الاجتماعية الصارمة.
هكذا يصبح السؤال المطروح: هل يعبّر الأدب عن التجربة كما عشناها، أم هل تتم مصادرتها خضوعاً للطقوس الاجتماعية؟
إن تهمة «ميرسو» بقتل البدوي تجد رافداً لها في ملاحظات مدير مأوى العجزة حول سلوك «ميرسو» في جنازة أمه:
«ورداً على سؤال آخر، قال إنه فوجئ بهدوئي، يوم دفْن والدتي، ولقد سُئل عما يعنيه بقوله (هدوء)، فنظر المدير إلى طرف حذائه، وقال إني لم أُبْدِ الرغبة في مشاهدة أمي، ولم أبكِ ولو مرة واحدة عليها، وإنني ذهبت فوراً إثر دفنها دون أن أنحني بكل حواسي فوق قبرها..
وقال إن شيئاً آخر فاجأه أيضاً: فقد ذكرَ له أحد مستخدمي مراسم الجنازة، أنني كنت أجهل كم تبلغ أمي من العمر..».
وتستمر هذه الاتهامات حداً جعل المحامي يتساءل:
«أخيراً، نريد أن نعرف ما إذا كانت التهمة الموجهة إلى موكلي هي دفن أمه، أم إنه قتل رجلاً؟».
فيصرخ المدعي العام:
«نعم، إنني أتهم هذا الرجل بأنه دفن أمه بقلب مجرم».
إن خطيئة «ميرسو» الكبرى التي تم تضخيمها إلى أقصى حد، هي أنه لم يُخضع تداعياته للمواضعة الاجتماعية.
عند تيسير سبول، لا تقيم التداعيات اعتباراً للمواضعة الاجتماعية ولا للمنطق الاجتماعي الذي نطلق عليه صفة «الحس السليم». دعونا نقرأ هذه المقاطع من الرواية:
«ولاحظ عربي أن الخادمة التي يحشرونها تنام معه في الغرفة.. كانت غائبة عن حسه لفترة ثم عرّاها ورأى أن جسدها الداخلي نظيف جداً، فجاس بلذة.. ويبتئس حين يرى أن وجهها بعد أن تضع ملابسها، وسخ جداً».
«ولأن الخادمة ظلت وسخة الوجه، أحب من بعيد صبية سمراء تغدو لمدرستها كل صباح في الميعاد نفسه».
إننا أمام الانطباعات الأولى التي تخضع لتداعيات الراوي، ولا يربطها رباط منطقي، وبالتالي عقلي.
هل نستطيع أن نضع هذه الملاحظات المتفرقة في سياق مفهومي موحد؟ سنحاول ذلك..

(3)
نستطيع أن نكتشف أهمية التقنيات التي تحدّثنا عنها عندما نقيم رباطاً بينها وبين مسألتين: وظيفة الأدب وجماليته.
إحدى وظائف الأدب، وأخطرها، أنه يجعلنا نعيش تجارب حياتنا اليومية مرة أخرى، ولكن برؤية وفهم مختلفين. إن تجاربنا اليومية مستلبة، لأنها محالة دوماً إلى إطار مرجعي متكلس، فقد مضمونه الواقعي وأصبح شكلاً فارغاً، أعني به المواضعات الاجتماعية. يكفي أن نطرح على المواضعة سؤالاً منطقياً واحداً حتى ينكشف فراغ هذا الشكل الميت.
مثال ذلك أننا نوافق أن تعمل الفتاة موظفة، وقد تكون هي وأحد زملائها في حجرة واحدة مغلقة. ذلك مقبول تماماً. ولكن حين يدعوها هذا الزميل إلى شرب فنجان قهوة في مكان، فإن موافقتها تصبح فضيحة. هذا هو منطق المواضعة الاجتماعية: الخلوة مع رجل أمر مقبول، والجلوس في مكان عام، أمام مئات الأعين، شيء مستنكَر.
بهذا تصبح ردود أفعالنا، وأفكارنا وانفعالاتنا مقننة. إننا نلغي أبعادها، كلها، أو معظمها، ونقتصر على ردود الفعل التي حددتها الطقوس الاجتماعية.
من هنا تبرز أهمية الأدب. إنه يعرض تجاربنا المفرغة من الحياة والمعنى ليشحنها بطاقة معرفية هائلة، فعندما نقرأ في رواية «أنت منذ اليوم»، أن الراوي سئم الخادمة لأن وجهها يكشف عن وساخته عندما ترتدي ملابسها، فإنها –الرواية– تجردنا من مفهوم اجتماعي طبقي، وتكشف لنا رغباتنا الحقيقية.
كذلك، فإن عادات العقل الذي دفعه العرف الاجتماعي إلى الخمول، هي التي تجعلنا نقْبل خطبة المذيع الحمقاء: «لا تحزنوا فسوف أحقق لكم وحدة صحيحة»، لكننا بمجرد أن نفاجئ العقل الخامل بهذه الخطبة وقد صيغت بشكل خطاب غير مباشر حتى يكتشف هذا العقل أنه خُدع.
عندما نقرأ في هذه الرواية:
«وقال لنفسه: أحب أن أحمل وشم دولة عظيمة، أنا متأكد من هذا.
غير أن الكراسات الحزبية تضجره، لقد عرف أنها متشابهة ولا معنى لتوزيعها كل أسبوع. يسقط الاستعمار. نعم، لكن كيف؟ لم تكن الكراسات مفصلة، ولم تحمل له الاكتفاء».
عندما نقرأ هذا، فإننا ندرك أن الحزب، الذي ادّعى لنفسه تمثيل مستقبل الأمة، وأنه الشكل الملائم للمضامين الجديدة، الحاضرة والمستقبلية، قد أصبح شكلاً فارغاً، تكراراً لطقس، أي أنه أصبح إعادة إنتاج للمواضعة الاجتماعية، وآية ذلك قولٌ مبهم وتكرار. وهاتان هما سمتا الطقس الاجتماعي الذي لا يحيلك إلى واقع، بل إلى ذاته.
لذلك، كان مفهوماً أن يقدم البطل استقالته من هذا الحزب. إنه بذلك يحتج على فراغ الشكل، ويدعونا إلى الاحتجاج عليه، وبهذا تصبح الحياة عملية تجاوز مستمرة عبر الأدب. إن الإنسان من خلال الأدب، ينفتح على حقل معرفة لانهائية، وهذا ما وصفناه قبل قليل بأنه «عملية»، تمييزاً عن تكديس المعلومات.
وأدب تيسير –روايته هذه بشكل خاص– لا يكتفي بأن يعيد صياغة حياتنا اليومية بشكل جديد، لكنهاتمنحنا الحرية، وعلينا أن نحدد، هنا، ما نعنيه بالحرية.. إنها تحريض لنا على حرية التداعي، إذ تتوقف تداعياتنا بالتدخل المستمر لما نسميه «الحس السليم»، والذي هو في حقيقته مجموعة من الكوابح لتداعياتنا وتفكيرنا.
عندما تطْلق هذه الرواية حرية دفع الواقعة العيانية المباشرة إلى ترابطاتها بكاملها، فإنها تحرك آلية أخرى.. إنها تدرب العقل على المضي في محاكماته حتى النهاية. إنه يفعل ذلك بعد أن يكون قد امتلأ بمضامين حية، تخلصت من عبء الأشكال المتحجرة، الكاتمة لأنفاسها.
هذا عن علاقة هذه التقنيات بوظيفة الأدب، التي حددناها بوصفها وظيفة معرفية، فماذا عن علاقاتها بالمعطى الجمالي؟
إن التفريق بين وظيفة الأدب وجماليته ليس قائماً بالفعل، لكننا نلجأ إليه لأسباب منهجية. إن العلاقة بين وظيفة الأدب وجماليته هي العلاقة بين المعرفة وأساليب توصيلها، فالمعطى الجمالي يعني بالتحديد الوسيلة التي ينقل بها المؤلف تجربته إلى المتلقي.
إن استعمال تيسير، في روايته، التقنياتِ التي ذكرناها، كان بهذا المعنى جميلاً. إن كشف الجوانب الغريبة للواقعة العيانية يسهّل ايصالها للمتلقي، فالجهاز العصبي لا يستقبل، إلا وهو نصف نائم، الخطابَ المكرور والعادي. إنه يستيقظ فقط أمام الجدة. والغرابة التي ذكرناها لا تعني غير الطبيعي والخارق، بل تعني اكتشاف الوجوه الجديدة وغير المتوقعة لحياتنا اليومية.
بكلمات أخرى، فإن جمالية هذه الرواية تكمن في طزاجتها، في كشف حقيقة أنفسنا، حقيقة نعرفها لكننا نهملها.. وهذه الطزاجة تجعل من القارئ مبدعاً..
******
(دراسة بخط يد الروائي الراحل غالب هلسا، حصل عليها «الرأي الثقافي» من د. موفق محادين، وبحسب الكاتب نزيه أبو نضال، قدمت هذه الدراسة في ندوة حول الراحل تيسير سبول أقيمت في دمشق أواخر الثمانينات وشارك فيها أبو نضال).

.alrai-related-topic { width: 100%; } .alrai-related-topic .wrapper-row { gap: 27px; flex-wrap: nowrap } .alrai-related-topic .item-row { padding-right: 1px; width: 280px; } .alrai-related-topic .item-row .item-info { padding: 15px 15px 28px 16px; border: 1px solid rgba(211, 211, 211, 1); height: 118px; } .alrai-related-topic .item-row .item-info a { color: #000; color: color(display-p3 0 0 0); text-align: right; font-family: Almarai; font-size: 15px; font-style: normal; font-weight: 800; line-height: 25px; text-decoration: none; -webkit-line-clamp: 3; -webkit-box-orient: vertical; display: -webkit-box; overflow: hidden; } @media screen and (max-width:768px) { .alrai-related-topic .wrapper-row { flex-wrap: wrap } .container .row .col-md-9:has(.alrai-related-topic) { width: 100%; } .alrai-related-topic { margin-top: 10px; } .alrai-related-topic .item-row { width: 100%; } }
.alrai-culture-art-widget{border-right:1px solid #d9d9d9;padding-right:11px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1 a{color:color(display-p3 0 .6157 .8745);text-align:right;font-family:Almarai;font-size:24px;font-style:normal;font-weight:800;line-height:39px;text-decoration:none;padding-bottom:5px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1{margin-bottom:26px}.alrai-culture-art-widget .title-widget-1::after{content:"";position:absolute;left:0;right:0;bottom:0;background:linear-gradient(90deg,rgba(0,85,121,.05) 0,#009ddf 100%);z-index:1;height:3px;width:100%}.alrai-culture-art-widget .img-row{width:100%}.alrai-culture-art-widget .img-ratio{padding-bottom:58%}.alrai-culture-art-widget .item-info{padding:23px 0}.alrai-culture-art-widget .item-info a{color:#000;color:color(display-p3 0 0 0);text-align:right;text-decoration:none}.alrai-culture-art-widget .item-row:not(:first-child)>a{display:none}.alrai-culture-art-widget .item-row a{color:#000;color:color(display-p3 0 0 0);text-align:right;text-decoration:none;-webkit-line-clamp:3;-webkit-box-orient:vertical;display:-webkit-box;overflow:hidden}.alrai-culture-art-widget .item-row:not(:last-child){border-bottom:1px solid #d9d9d9}@media screen and (min-width:1200px){#widget_1703 .alrai-culture-art-widget{border-right:0px;padding-right:0}}
.alrai-epaper-widget{margin-top: 20px; max-width:250px}
Tweets by alrai
.alrai-facebook-embed{margin-top: 70px;}
#widget_2097 .alrai-section-last-widget {padding-top:35px;margin-top:0;} .alrai-section-last-widget .row-element .item-row .img-ratio{ display:flex; } /* Horizontal scroll container */ .alrai-section-last-widget .full-col { overflow-x: auto; overflow-y: hidden; -webkit-overflow-scrolling: touch; width: 100%; } /* Flex container - critical changes */ .alrai-section-last-widget .content-wrapper { display: flex; flex-direction: row; flex-wrap: nowrap; /* Prevent wrapping to new line */ align-items: stretch; width: max-content; /* Allow container to expand */ min-width: 100%; } /* Flex items */ .alrai-section-last-widget .item-row { flex: 0 0 auto; width: 200px; /* Fixed width or use min-width */ margin-right: 7px; display: flex; /* Maintain your flex structure */ flex-direction: column; } /* Text handling */ .alrai-section-last-widget .article-title { white-space: nowrap; /* Prevent text wrapping */ overflow: hidden; text-overflow: ellipsis; display: block; } /* Multi-line text truncation */ .alrai-section-last-widget .item-row .item-info a { display: -webkit-box; -webkit-line-clamp: 3; -webkit-box-orient: vertical; overflow: hidden; white-space: normal; /* Allows line breaks for truncation */ } /* Hide scrollbar */ .alrai-section-last-widget .full-col::-webkit-scrollbar { display: none; } @media screen and (min-width:1200px){ .alrai-section-last-widget::after { transform: translateX(0); } } @media screen and (max-width: 768px) { .alrai-section-last-widget .row-element .content-wrapper { flex-direction: row !important; } .alrai-section-last-widget::after{ transform: translateX(100%); right:0; left:0; } }
.death-statistics-marquee .article-title a,.death-statistics-marquee .title-widget-2 a{text-align:right;font-family:Almarai;font-style:normal;font-weight:700;line-height:25px;text-decoration:none}.death-statistics-marquee .breaking-news-wrapper{width:100%;display:flex}.death-statistics-marquee .breaking-news{background-color:#7c0000;padding:22px 17px 24px 18px;color:#fff;text-align:right;font-family:Almarai;font-size:22px;font-weight:700;line-height:25px}.death-statistics-marquee .breaking-news-content{background-color:#b90000;padding:22px 18px 24px 21px;color:#fff;text-align:right;font-family:Almarai;font-size:22px;font-weight:700;line-height:25px;width:100%;position:relative}.full-container .marquee-container-widget:not(.relative-widget) .wrapper-row{position:fixed;width:100%;right:0;bottom:0;z-index:100000}.death-statistics-marquee .marquee-container-widget .title-widget-2{width:75px;background-color:#757575;color:#fff;height:60px;display:flex;align-items:center;justify-content:center}.death-statistics-marquee .title-widget-2 a{color:#fff;color:color(display-p3 1 1 1);font-size:15px;padding:16px 18px 16px 15px;display:block}.death-statistics-marquee .content-row:not(.content-row-full){width:calc(100% - 100px);background-color:#000}.death-statistics-marquee .content-row marquee{direction:ltr}.death-statistics-marquee .content-row .img-item{display:inline-flex;height:60px;align-items:center;vertical-align:top}.death-statistics-marquee .content-row .article-title{height:60px;display:inline-flex;align-items:center;color:#fff;padding:0 15px;direction:rtl}.death-statistics-marquee .article-title a{color:#fff;color:color(display-p3 1 1 1);font-size:17px}.death-statistics-marquee .title-widget-2{width:100px}#widget_1932{position:static;bottom:0;width:100%;z-index:1}