(ان الاهمية لا تكمن في ان يحرّر المرء نفسه، بل ان يعرف كيف يكون حراً. غير ان سؤال الحياة الحقيقي يبقى قائما على ألسنة ناس الحياة: هل تغييب العقل يشكّل ذريعة للتحرر من الإرث والضمير..؟!(.
السياسيون العرب القدامى، لم يتمكّنوا من عبور «الباب الضيّق..»، الذي افتتحه الروائي الفرنسي الشهير اندريه جيد. فالحقيقة، في بلادنا، لا تزال تتعثّر بين العقل والارث والضمير. وربما لهذا بالذات تأتي معظم اجزاء السيرة الذاتية العربية باهتة، على هيئة تداع ذاتي، أو تمجيداً لبطولات بلا تاريخ، أو ادّعاءاً لحكمة مفقودة، بأثر رجعي ..؟!.
بعضهم، تجرأ على انتهاك فكرة متشددة، ترى في الاعتقاد، او التدين، معيارا لإنسانية الفرد. وما ان خرج هذا الانتهاك الى العلن، حتى تعرض الانتهاك الى الانتهاك، فعادت محاولة الانتهاك الى اولها، قبل نحو ستين عاما: شخصية، وتتحرك في دروب ضيقة، وابوابها اكثر ضيقا.
حين تلتقي احد هؤلاء المنتهكين العرب، يمكن للعقل ان يستعيد شيئا من عافيته، شريطة ازاحة الحمولة العاطفية، التي تختبئ بين ثنايا الكلام، اضافة الى قليل من التساهل في امر تخليص الكلام من فتنة ارتجاله.
ولعلّ اول عافية العقل النقدي هو استعادة تأثير اندريه جيد، على فئة كبيرة من المثقفين والسياسيين العرب، خصوصا الرسميين منهم، في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، وبالتحديد، بعد وفاته في مطلع الخمسينيات، بعد ان حصل قبلها بأربعة اعوام على جائزة نوبل للآداب.
وجيد المولود في باريس عام 1869م، هو روائي فرنسي، والده استاذ جامعي، ربته ثلاث نساء: عمته (كلير)، والعانس (آنا شاكلتون)، ووالدته ذات المذهب الكالفيني (جولييت روندو). وقد حقق الرجل نجاحه كروائي من خلال روايته (دفاتر اندريه فالتير)، المنشورة عام 1891، اضافة الى روايته الشهيرة (الباب الضيق)، التي نشرها في العام 1902.
اللافت في سيرة الرجل العملية أنه، وبدءا من العام 1896، شغل عدة مناصب رسمية: محافظ، ثم قاض، وبعدها مندوب سام لمستعمرة فرنسية. اندفع بعدها الرجل الى العمل الروائي، وربما كان تداخل السيرة الذاتية مع العمل الروائي، بسبب التشابه، سببا في اعجاب فئة من السياسيين العرب به.
وفي روايته (اللا أخلاقي)، التي نشرت عام 1902، يوظف على لسان بطل روايته شيئا من سيرته الذاتية. فالبطل يدعو اصدقاءه، بعد موت زوجته، ليروي امامهم قصته، وذلك كي تصبح جزءا من الماضي، وخارج حياته، والمقصود هنا قصته أو حكايته مع زوجته الراحلة..!؟.
يلتقي بطل الرواية مع ارستقراطي، يوظف الروائي على لسانه حكمته ونصائحه الى البطل. فالأرستقراطي، يقول: ان كل دقيقة يجب أن تأخذ معها كل شيء احضرته، أي يجب عدم تذكّر الماضي والبحث فيه. فتحرير النفس من الماضي، تمكّنه من عيش الحاضر كاملا، فبحسبه ان الذكريات اسلوب لتفادي الحاضر.
وفي (اللا اخلاقي) أيضاً، يدرك بطل الرواية اخيرا ان الاهمية لا تكمن في ان يحرّر المرء نفسه، بل ان يعرف كيف يكون حراً. غير ان سؤال الحياة الحقيقي يبقى قائما على ألسنة ناس الحياة: هل تغييب العقل يشكل ذريعة للتحرر من الارث والضمير..؟!.
كثيرةٌ هي كُتبُ السيرة الذاتية العربية، التي تحتاج الى التخلّص والتخليص من حمولات زائدة، كي تصبح مصادر حقيقية لمعارف مُضافة. والى ان يحدث ذلك، فستبقى تلك السير محسوبة على معارك الحاضر اليومية، كإرث شخصي او عائلي، يتوسّل نصيب الأبناء والأحفاد فيما هو قادم ..!؟
[email protected]