جلَسَت معي في صالة بيتي وأمامنا شاشة التلفاز فترة تزيد عن الثلاث ساعات، تحدَثت كثيرا ولم تقل شيئا، وأجدتُ الإنصات، كانت بين الحين والآخر تصف بعض آلامها الجسدية''ذات المنشأ النفسي'' وتحاول الابتعاد عن مشكلتها الحقيقية، كما جسدها يحاول الالتفاف على المتاعب النفسية باستدعاء الآلام، هي أيضا تتحايل على الحالة برمتها بمحاولة عدم التوسع بسرد أية تفاصيل، لكنني كنت أنصت، أنصت إلى حركات جسدها، رجفة كفيها،نظراتها، شرودها حينا وتفاعلها بشدة حينا آخر، في هذه الأثناء كنت أحاول أن انتزعها من أجوائها قليلا بالالتفات إلى شاشة التلفاز، أو بالالتفات إلى سلوكي وسلوكها تجاه هذا الجهاز، كانت الشاشة بيضاء ضبابية، لكننا كنا ننظر إليها ، قلت لها: إن من يراقبنا عن بعد قد يعتقد واهما بأننا مشدودتين لمتابعة أحداث ، سياسية، فنية، ثقافية، غاية في الأهمية، لم يكن لدى كلينا دافعا لمحاولة تغيير القناة واختيار ما يمكن مشاهدته ليس فقط لأن لا شيء يستحق المشاهدة ولكن لأن هذا البياض أو الضباب يلامس شيئا ما، يشبهنا قليلا أو لأقل كثيرا، فيه ما يلامس الأجواء النفسية الخاصة، أو حالة ''لست أدري'' لست أدري أين الخلل ولست أدري ما هي الطرق لابتداع الحلول، ولسنا ندري إن كان هنالك ثمة حل؟ فالأشخاص يشبهون الألوان، منهم الناري الحار ومنهم البارد الهادئ ومنهم الرمادي ومنهم الضبابي والأهم من بين كل هذه الأنماط هو من يصل حالة الضبابية نتيجة ظروف نفسية ضاغطة ومستمرة،- بغض النظر عن نسبة تسببه بالحالة- ومسؤولياته تجاه ما يواجه من مشكلات، قلت لها بسخرية، الفيلم الذي نشاهده جميل، جميل جدا لدرجة لا تكاد أعيننا الالتفات إلى غيره، فيلم الضباب هذا كثيرا ما أشاهده، كثيرا ما أجلس بالساعات أمام شاشة بيضاء ضبابية أشعر نفسي أمامها بأنني كاتبة القصة والبطلة والمنتج والمخرج معا،هذه المساحة تعطينا فرصة للاستغراق في ضبابيتنا إلى درجة الإفاضة التي قد تودي إلى غربلة الرواسب التي تنطوي عليها نفسياتنا.
طلبت منها أن تتوقف عن حديث لا تجيد الاستمرار بسرد تفاصيله ولم أكن حينها قادرة على تقمص دور المختص في الاستماع، ليس لشيء إلا لأنني أعيش حالة جسدية تشبه حالة لديها، تلك الحالة هي الشعور بأن ثقلا ما يحتل أعلى المعدة ليحدث فراغا قاتلا، وشعورا بعدم القدرة على الإنجاز أو الكلام أو القيام بأي نشاط ، طلبتُ منها أن تعطي نفسها إجازة وتمعن النظر معي في أحداث الفيلم الخيالي الضبابية، هي أيضا تشبه تلك الشاشة في بياضها، وبراءتها وعفويتها، لا تجيد التلون ولذا لم تجد فن إدارة الحياة، كثيرون منا يشبهون الشاشات البيضاء ومنهم أولئك الذين ينسون بعد ساعة من تعرضهم لموقف يساء فيه إليهم الموقف ومن تسبب به......قد تسأل أحدهم :لماذا كنت غاضبا أو ما هي مصادر غضبك واستيائك في الساعة الفلانية من فلان ويجيبك بكل بساطة وإنسانية وترفع: نسيت.....!
maisa_rose@yahoo.com