يبدو الحديث عن حبيب الله الافندي في هذا الزمن أمرا متباينا وغريبا ومستحبا في الوقت نفسه خاصة أن هذا الأفندي ينعم بمكاسب يعجز عنها الرجل العادي القابع في زوايا النسيان والاهمال،وافندينا قد يكون واحدا يعجز القلم عن وصفه والاغراق في تفاصيله؛لأنه يتلون ويرتدي مقاسات مختلفة ويتمتع بثقافة متنوعة،ويملك مشروعا ورقيا لا يجد له حبرا وحروفا ومنضدة تكمل الشكل والمضمون،وهنا أستميح الروائي العربي المصري المبدع محمد ناجي الذي امتلك جرأة نادرة في توصيف هذا الافندي ورسمه بعناية فائقة في روايته الجديدة التي جاءت تحت هذا العنوان ، وتوحي للقارئ أن المجتمع العربي فيه أفندية على مد البصر، غير أنهم يعيشون حالة من الردة بين ما كانوا فيه وما وصلوا إليه من تهميش وضياع وانهيار ،وهو يعرض الى انهيار الشرائح الوسطى في العالم العربي وفي بلده على وجه الخصوص،ونحن لا نريد أن ندخل في تفاصيل الرواية ولغتها الغنية وسردها التأملي وواقعيتها المتخيلة؛لأننا نرغب أن نسلط الضوء على ركيزة المجتمع الأساسية ،هذه الركيزة تحتاج نظرة حقيقية كي لا تنهار هذه الشرائح وحينها يغرق المجتمع في أتون الاسئلة والتمزق وعندها ينجرف قاع المجتمع على حد رأيه ويخرب الى غير رجعه، وهذا ما لا ترغب فيه أية جهة كانت في أي مجتمع كان، وهذا المحذور كان قد حذر منه في مقاماته العربية ولحنه الصباحي وفي توصيفه للعايقة بنت الزين وقبلها في خافية القمر،ويمكن ان نلتقط في كل ذلك تفاصيل معبرة عن حركة المجتمع وذوبان الطبقة المثقفة في متاهات البحث اليومي عن الذاكرة المنسية ومتطلبات المرحلة العصية. وحين نتصفح صحائف الافندي وأوراقه بطل هذا الزمان نجده يقبع في احلامه واحباطاته وبحثه الدائري المفقود حتى في نفسه؛وكأننا في صورة متموجة لرجل فقد طعم الحياة وغاب في حسابات تافهة وخيارات تلهث خلف جدر متقاطعة لا تظهر الا في ظل الماء بلا لون ولا طعم أو رائحة،انها مغرقة في صفرة اللهب والتعب يبلع لسانه ويمضي وهو يتعثر في احجار الطريق،هذا الأفندي لا يهمه في نهاية الأمر سوى تلك الذات التي تتسول الصدقات تمد يدها الى صمت العابرين، تتنهد وتتأمل وتتألم ولا تعرف الى اين المنتهى! ولا كيف تتدبر أمرها حين يختلط الحابل بالنابل ؛وكأننا به يحاور ذاته وينادي بأعلى صوته فيجد صداه في دار السراب مثقلا بالسهر،هكذا الافندي في جموحه وخيالاته وعبقريته يراقص فضاءاته ومواويله يترنح في مجتمعه ،ومجتمعه في غيبوبة وسفر بعيد، والنتيجة أنه الافندي المتعجرف والاناني الذي يمثل الانسان في كل تقلباته وشطحاته، خاصة بعد اختفاء كل القيم النبيلة والجميلة من حياتنا المعولمة،واذا جاز لي أن اقدم التحية فهي أولا لصاحب هذا الظل الجميل الروائي محمد ناجي الذي عشت معه اياما في ابداعاته ومقاماته العربية وللشاعرة سهير كمال الداوود التي اضأت الطريق امام هذا الافندي الذي اصبح يعيش معنا بفصاحته التي تشبه سير البدوي في الصحراء،يمشي ساعة تلو أخرى ليبلغ حجرا،وقد يسير يوما بطوله قاصدا سرابا. [email protected]