المحنة وأسبابها

المحنة وأسبابها

* د.عودة الله القيسي - قرأت كتاب د.فهمي جدعان 'المحنةّ - بحث في جدلية الدينيّ والسياسي، في الإسلام'. الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2000.. وعندي ملاحظات له وعليه.
ففي المدخل والفصل الأول، كان الباحث  مؤرّخا تقليدّيا معاصرا. والذين عرضوا لمحنة 'خلق القرآن'، قدامى ومعاصرين، وأنكروا خلق القرآن، رأيهم أسدّ من رأي الباحث.
وقد طوى الباحث كتابه (وهو مكوّن من خمس مئة صفحة ) على فكرة رئيسيّة، مؤدّاها أن المعتزلة ليسوا هم الذين شجّعوا المأمون على الاقتناع بمقولة 'خلق القرآن'. وهذا غير دقيق. فليس دقيقا أن المأمون، بتدبّره الذاتي، قد انتهى إلى فكرة خلق القرآن. لأنّ الحكام الذين يتولّون شؤون الحكم، في شبابهم ?كالمأمون? لا يجدون وقتا لتثقيف أنفسهم إلا من خلال أحاديث الجلساء. وهذه ثقافة ناقصة. فليس من مصدر لقضيّة 'خلق القرآن' عند المأمون إلاّ المعتزلة أنفسهم. وإن تحدث عن خلق القرآن -بإشاراتٍ? غيرهم.
ويرى الباحث أن المأمون (وخليفتيه المعتصم ثم الواثق) أخذوا بمقولة 'خلق القرآن'، لقمع أهل الدين والحديث، فكان الامتحان لتعذيب من لا يوافق، والتشهير به. وهذا غير دقيق. كما يستند الباحث في ذالك إلى أن القانون الطبيعي هو الصراع بين أهل الدين وأهل الملك دائما. ولم يقل الباحث كلمة في سبب غياب جماعة الاعتزال بعد القرن السادس. وقد جاءت لغة الكتاب رصينة.
وفي التفاصيل، فإن الباحث يعتمد على سرد الروايات كما جاءت في الكتب، من دون أن يناقشها ?بشكل عامّ ? ومن دون أن يكتفي بالروايات الأقرب إلى الأحداث. وإنما يحشر في الهامش كلّ المراجع التي أوردت الحدث.. فهناك رواة من المعتزلة، ومن الشيعة، ومن السّنّة، ومن أقارب الإمام أحمد بن حنبل. ولكنّ الباحث ساوى بينهم، وكان يجدر تمحيص رواياتهم، وليس إيرادها على علاتها. ونشير لتوضيح ذلك إلى ما كتبه الجاحظ المعتزلي عن الإمام أحمد، وما كتبه الذهبي، وما بين الكاتبين من خلاف في الحكم.
إذ يروي الجاحظ عن المعتصم أنه قال للإمام أحمد: 'أفٍّ لهاذا الجاهل مرّة، والمعاند مرّة' (ص 176)، فالإمام عند الجاحظ 'جاهل'. ويقول: 'وعرف الخليفة كذبه، عند المسألة كما عرف عنوده، عند الحجّة'، فالإمام عند الجاحظ المعتزلي يكذب! وأحمد لم يكن ينعت بالكاذب، عند النظر العادل المنصف لأن الجاحظ معتزليّ.
أمّا الذهبي فيقول إن المعتصم 'امتحن الإمام أحمد ابن حنبل، وضرب بين يديه بسياط حتى غشي عليه!' (ص 177). لنلاحظ الفرق الهائل بين الروايتين: بين رواية الخصم، ورواية المؤرخ العادل! ومثل هذا مئات المواضع التي اكتفى فيها الباحث بالسّرد، شأنه شأن معظم أساتذة الجامعات، وتلاميذهم، في مرحلتي الماجستير والدكتوراه.. يسردون الروايات المتناقضة، ولا يشكون ولا ينقدون ولا يغربلون، فيقبلون ويطرحون،وإنما دائما يقبلون.
ومثل هذا تكثير المراجع التي لا لزوم لها في البحث، سوى أنها عادة جرت عليها الدراسات الرصينة شكليّا. مثلا: في هامش الصفحة 122 يورد المؤلف المراجع هكذا: 'الذهبي: العبر  1/431، شذرات الذهب، 2 / 93، الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص  99، الذهبي، سير أعلام النبلاء، 11/326، وما بعدها، ابن الجوزي، مناقب، ص 308 وما بعدها، السبكيّ، طبقات الشافعية الكبرى، 2/34، صالح ابن أحمد ابن حنبل، سيرة الإمام أحمد ابن حنبل، تحقيق فؤاد عبد المنعم أحمد، الإسكندرية، حنبل ابن إسحاق بن حنبل، ذكر محنة الإمام أحمد ابن حنبل، ط 1، دراسة وتحقيق د.محمد نغش، 1997).
فهل ترى داعيا لكل هذه المراجع؟ ومنها المتقدم، ومنها المتأخر الذي نقل عن المتقدم ليس أكثر؟ فالذهي ذكر مرتين، في كتابين له! والحق أن الكتابين المتقدمين الأولى في الذكر من غيرهما هما كتابا آل حنبل، يليهما كتاب ابن الجوزي لأنه أقدم من غيره، ولا داعي لما بقي. لماذا؟ لأن جهد الباحث، خصوصا طلاب الماجستير والدكتوراه، يضيع في التنقيب في المراجع، بحيث يستهلك ذلك طاقته، فإذا جاء إلى مرحلة الكتابة كان قد أعيا، فلا يقول شيئا ذا بال، وإنما هي أخبار ومعلومات يسردها. ولهذا.. فليس في رسائل الماجستير والدكتوراه شيء جديد على العموم.
ولو أن الباحث هنا تناول نصّي صالح ابن أحمد وحنبل ابن إسحاق، من جهة، وتناول نصّ ابن الجوزيّ، وناقش الثلاثة، وبين أيّها أقرب إلى الصحة وأيّها الصحة فيه ليست عالية، لكان في ذلك فائدة للقارئ، إذ لا قيمة لحشد المراجع من دون مناقشة.
وكان أسدّ من رأي الباحث، رأي القدامى والمعاصرين، فقد ذكروا أن 'المعتزلة' -أو بعضهم? كانوا وراء 'محنة خلق القرآن' هذه، البدعة التي تبنّاها الخليفة المأمون ثم المعتصم ثم الواثق. أمّا الباحث فهو يرى أن المعتزلة لم يكونوا إلا كإحدى الفرق التي يجالس رجالها الخليفة. ثم قال بخلق القرآن فرق قبل المعتزلة، كالجهمية، أتباع جهم ابن صفوان.
فالمأمون أراد أن يضرب الديني بالديني لصالح السياسيّ. أراد أن يمتحن أئمة 'الحديث والحقّ' بمعضلة 'خلق القرآن'، فمن أقرّ بخلق القرآن  سقط عند العامّة، ومن أنكر ضرب وحبس أو قتل، وبهذا يخفّ ضغط الديني على السياسي؛ يقلّ دعاة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كقوّة موازية لقوة السياسي، لأن استفحال دعوة العلماء بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يحدث عنه اضطراب كبير، ويحصل عنه تخلخل بنيان المجتمع الذي يؤدّي إلى تخلخل بنيان السياسي (الدولة).
وأنا لا أقرّ هاذا الفهم لأن المعتزلة قلّة؛ فهم نخبة، ليس لهم بشكل عامّ جمهور من العامّة. والسبب بيّن، لأنهم أصحاب كلام وجدل، والعامة لا تستطيع مداركهم أن تستوعب هاتين الآليتين، فينصرفون عن أصحاب الكلام والجدل، ويقبلون على أصحاب الحديث، كالإمام أحمد بن حنبل. لذا ليس من المقبول أن يستقوي بهم، بل -بالعمليين منهم? الخلفاء على أصحاب الحديث وأتباعهم من العامّة. إنهم شرذمة قليلون، وليس دقيقا أن الذي يقر بخلق القرآن يسقط عند العامة، لأن القضية برمتها بعيدة عن مدارك العامة.
كما كان بإمكان الخلفاء أن يستميلوا رؤوسا من المحدّثين وأصحاب الحق عن طريق التقريب والتكريم، وإغداق المال عليهم. وهم لهم أتباع أكثرهم سيظلّ تابعا، فيقلّ أصحاب الحديث المتصلبين. وهذا أجدى عليهم من استمالة المعتزلة وهم قلّة. بل الحق أنهم آمنوا برأيهم، مخدوعين بالجدل الكلامي.
إضافة إلى أن الخلفاء، خصوصا الذين يرثون الحكم، وهم شباب، كالمأمون، ليس لديهم وقت للمطالعة والتثقيف الذاتي، وإنما يأتيهم التثقيف ممن يجالسونهم من علماء الفرق. وهذا قاصر عن التثقيف الذاتي المستوعب، المكون لاستقلال الشخصية. لذا، فلن تكون فكرة 'خلق القرآن' تدبّر من المأمون للقرآن، وإنما أقنعه بها جلساؤه من المعتزلة، كأحمد ابن أبي دؤاد، الذين عمل لكلّ من المأمون والمعتصم والواثق.
عندئذٍ، ليس من اللازم أن يكون المأمون ?وخليفتاه? قد أخذوا بفكر الاعتزال، ومنهجه، وإنما هم أخذوا فكرة 'خلق القرآن' حسب، مع أطيافٍ من فكر المعتزلة، ليست معّمقة.
إن الادعاء بأن المأمون أراد أن يضرب الديني بالديني لصالح السياسي، ليس مما يستقرّ عليه العقل. لأن هذا بعني أن المأمون 'امتحن' العلماء بخلق القرآن، وهو غير مؤمن بذلك. وإنما اتخذ ذلك لكي يضرب الديني بالديني لصالح السياسيّ. ومقتضى هذا أن المأمون وخليفتيه ضعيفو الإيمان بوحدانية الله. وهذا أمر غير مقبول: فالخلفاء من بني العباس، عندهم مجازفات سلوكية، ولكن، لا يعقل أن تصل المجازفات إلى العقيدة، ورأس العقيدة وحدانيّة الله، والقرآن كتاب الله، وكلام الله القديم.
إذن، لا يبقى عندنا شكّ في أن المأمون ?وخليفتيه? كانوا 'مؤمنين' بفكرة 'خلق القرآن'. ولذا لم يدفعهم إلى امتحان العلماء بالدرجة الأولى إلى التاسعة، إلاّ إيمانهم بهذه الفكرة. أمّا العاشرة ?فقط? فقد تلمح فيها ميلا إلى الاستفادة من هذا الإيمان ?عمليا? بضرب الديني بالديني، لصالح السياسيّ.
إنها قضية إيمانيّة قبل أن تكون سياسية، بمراحل. ومن أدلّة ذلك أن الخليفة المتوكل تخلّى عن معضلة 'خلق القرآن'، لأن الأمر، ليس في جوهره ضرب الديني بالديني لصالح السياسي، وإنما هو اعتقادي، وإلاّ لما تخلّى المتوكل عن هذه الفكرة. لأن الديني (علماء الحديث والحقّ) لم يضعفوا في عهد المتوكل، ولذا تخلّى عن الديني (خلق القرآن)، لأنه ليس آلة أو قوة ليضرب الدينيّ الآخر (علماء الحديث) به.
ولو أن الأمر حنكة سياسية، لما تخلّى عنه المتوكل الذي أبقى الإمام أحمد محبوسا في العسكر، ولم يسمح له بحضور الجمع والجماعات. لأن عذره يكون أكبر لو أنه تذرّع بذريعة خلق القرآن التي ينكرها الإمام أحمد. لو أن معضلة خلق القرآن ليست إلا آلة قهرٍ وسلطانٍ، وليست قضيّة إيمانية عميقة عند معتنقيها، لما حملوا الناس عليها ?على قلّة أنصارها من العامّة.
ولم يشر جدعان بشيء إلى سبب انتهاء جماعة المعتزلة، بعد القرن السادس، مع أن كتابه كان معقودا على الدفاع عن المعتزلة، أن لا علاقة لهم إلا كفرق أخرى، في 'محنة خلق القرآن'، لأن الخلفاء لم يتبنّوا الاعتزال، أو قضّية خلق القرآن من المعتزلة، ابتداء من المتوكل.
الأفكار العظيمة لا تموت، وتظلّ في كلّ عصرٍ يتبنّاها جماعة وتؤمن بها، وتكتب فيها وتدافع عنها. غير أن الأفكار غير العميقة، أو المنحرفة عن الخط المستقيم الذي ينتظره الناس، بفطرتهم، قد تغري بعض الناس، حينا. ولكن، كلما ابتعد طرفها المتحرك عن الخط المستقيم، تضحي الفجوة واسعة بين نهاية خطّها، ونهاية الخطّ المستقيم، فيبدو للناس قصورها وانحرافها، فيتخلّون عنها، شيئا فشيئا، حتى لم تعد في يوم من الأيام مكان قناعة أحد، فتموت عمليا.. هكذا كان فكر المعتزلة، وهكذا كان فكر الخوارج، الأقصر عمرا!
يكفي أن يتبين أنه ليس فكرا عميقا في ذاته، صالحا للحياة في ذاته، إذ يستعين بالقوّة من أجل إرغام الناس على قبوله. وكل فكر يتدرّع، في انتشاره بالقهر والقوة، فكر هزيل في جوهره، غير صالح لمجاراة الحياة على طولها.
المعتزلة كانوا جدلين، كلاميّين، ولكن من خلال تنظير هائم في فراغ، وليس مستقرّا على الأرض، بحيث يختبر عمليّا فيبقى ما يثبت، ويستعاض عمّا لا يصلح بغيره. ويكفي (والمقام ليس مقام تفصيل) أن نذكر أنهم قالوا: 'الحسن ما حسنه العقل، والقبيح ما قبحّه العقل'، مع أن الشرع الذي من عند الله تعالى مقدّم على العقل. ولذا فقد كنت أؤمن وأكتب أن 'الحسن ما حسنه الشرع ?المفسّر بالعقل? والقبيح ما قبّحه الشرع، المفسر بالعقل'. أو كالذي انتهيت إليه أخيرا (أنهما عقلان: كلّيّ، وهو الشرع؛ وجزئيّ، وهو عقل الإنسان).
فالقرآن معانٍ وأفكارٍ، والعقل ينطوي على  معانٍ وأفكار. ويستحيل أن يتضارب العقلان، بل يستحيل أن يتضارب عقل الإنسان مع القرآن. وأعني بعقل الإنسان عقل الإنسان العبقريّ، وليس كلّ عقلٍ. فالعقلان من الله تعالى. خلق الله العقل الإنساني العبقريّ، ليفهم العقل الكلّيّ، ثم ينطلق من مبادئه وأصوله وكلياته، لكي يبدع في الحياة، بيد أن شرط العقل العبقريّ أن يبرأ من الهوى، ومن التعصب.