لقد أطبقت على الحياة البشرية منذ القدم دائرة الشيطان حيث لم تترك هذه الدائرة للأخلاق والإنسانية مساحة يمكن التحرك فيها ورغم أن هذه الدائرة لم تستطع أن تحل إحلالاً كاملاً محل الأخلاق والإنسانية ورغم أن إطباقها شبه الكامل على الحياة الإنسانية ورغم أن الشيطان احتل العقل البشري إحتلالاً يكاد يكون كاملاً إلاّ أن الحقائق الإنسانية والأخلاقية بقيت تموج ولو بترنح لكنها لم تمت. ولعل المفارقة الصارخة هي أنه من قلب هذه الحقائق بنت العنف بكافة أشكاله ( الجسدية والعسكرية والأيديولوجية والنفسية والدينية والإقتصادية وكافة أشكال القهر المعنوي ) مما حوّل الحقيقة السوسيولوجية المتعلقة بالإنسانية إلى تبعية لمقتضيات المصلحة. مما حدا بزيلو ميلوز إلى القول أنه لو أمكن التخلي عن السياسة، فسوف تبقى قيم الأخلاق والإنسانية والحقيقة وحدها في الميدان. وهذا القول يحفزّنا على السؤال التالي: هل انتهت الإنسانية والأخلاق من العالم ولم يبق إلاّ العنف والقتل وافتعال الجرائم وخنق الإنسانية والحقيقة واعتقال الأفعال الدالة على الحرية والقيمة الإنسانية؟ مثل هذا السؤال يضعنا أمام حقائق مذهلة ويصفع الحياة الإنسانية بصفعات مؤلمة إذ أن ما يجري في العالم يوجّه لطمة مذهلة لوجه الإنسانية. فما يجري في كينيا من اقتتال مذهل ومثل ذلك في السودان والصومال والمغرب والجزائر والعراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان وباكستان، وهذه أمثلة على ما يجري في مناطق أخرى من العالم ـ أقول ما يجري هو صفعة لوجه الإنسانية. والحقيقة التي لا يدركها معظم البشر هو أن الإغتيالات هي اغتيالات للعقل البشري حيث يتم اعتقال الأفعال المستندة إلى العقل، فاغتيال الإنسان بالإضافة إلى كونه اغتيالا للعقل الإنساني هو تعطيل للأفعال الناتجة والممكنة عن العقل، وإلاّ ما معنى اغتيال بناظير بوتو في باكستان والحريري في لبنان وصدّام حسين في العراق والسادات في مصر والآلاف من القتلى في فلسطين (اغتيال واقتتال) وفي لبنان والعراق (اغتيال واقتتال) وفي الجزائر والمغرب وكينيا والصومال والسودان وتشاد. أليس تلك أدلة صارخة على أن البشرية فقدت معناها الإنساني وأن الضمير والأخلاق الإنسانية لا تمثلها إلاّ بطون الكتب وأن الواقع الأخلاقي والإنساني لا وجود له أو في اضمحلال مستمر؟ من الواجب القول ان التخلي عن السياسة امر مستحيل، وفي أحسن الظروف لا نستطيع سوى العمل على الإبقاء على الأخلاق والضمير التي لا مكان لها في السياسة وعالم المصالح، نقول لا نستطيع سوى محاولة إبقائها في إطار السياسة ـ التي ترفض هذا ـ. يقول زيلو ميلوز ان هذه معضلة جوهرية تبلغ صعوبتها حداً فشل معه كل المعاصرين في إيجاد حل لها ويقصد بالصعوبة هو التوفيق بين المصالح السياسية وبين الأخلاقية والضمير. إن الإشكالية في هذا التوفيق تبلورت بصورة حادة في الإغتيالات والتصفيات الجسدية وذلك لحجب كل عمل أو ترجمة فعلية على أرض الواقع من شأنه أن يكون مطلباً بشرياً أو يفيد البشرية أو يفسر الوجود البشري فاغتيال بناظير بوتو مثلاً هو تعطيل للديمقراطية أو الليبرالية النموذجية التي يتطلبها الشعب الباكستاني ولست هنا بصدد التنديد بالخطيئة المرتكبة بحق بوتو أو مثلها بحق الحريري أو غيرهما من الآلاف الذين يقتلون نتيجة انعكاس المصالح والسياسات الفردية أو الإستقواء ولكن نجد أنفسنا ملتزمين بالإجابة عن أسئلة مثل: هل بالقتل والإغتيال تنتهي مطالب الشعوب؟ وهل الإغتيالات أو القتل والإقتتال يحل المشكلة البشرية أو يزيل الفقر والبطالة وسوء العدالة والقهر والإستبداد والإحتلال وسحق الشعوب؟ وهل الإغتيال أو القتل وتعطيل الأفعال يمكن أن ينهي الضمير والأخلاق والحقيقة؟ إن البشرية في أزمة عقل وأزمة ضمير وأزمة إنسانية وأزمة وعي على طبيعة الإنسان وأزمة وعي على حقوقه. والآن هل ينهزم الفعل والضمير والحقيقة والإنسانية والعدالة أمام الجرائم الإنسانية أم أن البشرية مضطرّة إلى استمرار المحاولات للإبقاء على الضمير الإنساني كوجود فاعل؟؟.