«مَن سرقَ ورَقّ فقد استحقّ»
د.هيثم سرحان
استطاع الحريريّ (ت. 516 هـ) انتزاع اعتراف مؤسسة الكتابة العربية بريادته الفذّة من خلال تجاوزه نموذج مقامات الهمذانيّ، وبلوغِه "مرتبة سلفٍ أسطوريّ مجيد وراسخ". ذلك أنّ مقاماته أحدثت جدلاً صاخباً بدءاً بتلقيها ومروراً بنُسَخِها وإعجازها وتناصّاتها وشرحها وتفسيرها ومنمنماتها ومخطوطاتها وسعة انتشارها وترجماتها ومحاكاتها باللغات العبرية والسريانية، وانتهاء بالخصومة التي نشأت على هامشها.
بيد أنّ حفاوة الاستقبال التي نالتها مقامات الحريريّ أدت إلى حجب قضية نقدية على قدر بالغ من الأهمية، هي قضية الانتحال التي لابستها وأحاطت بها وشاعت طيلة خمسة قرون بدءاً من القرن السادس الهجريّ وانتهاء بالقرن العاشر الهجريّ.
ولتجلية هذه القضية نكتفي، في هذا المقام، بعرض آراء الشريشيّ وياقوت الحمويّ ومناقشتها.
يصل انحياز الشريشيّ (ت. 619 هـ) شارح مقامات الحريري، إلى الحريريّ درجة التّعظيم والتوقير المُفرِطين، فالحريريّ، وفق الشريشيّ، واحد عصره، وعجيب زمانه. ولأنّ مقاماته "كانت من البراعة بهذا المحلّ الشهير، وسارت مسير النَّيرين بين مشاهير الجماهير" عمد الشريشيّ إلى الاعتناء بها والعكوف عليها رواية وقراءة وتحقيقاً وتدقيقاً وشرحاً وتفسيراً وضبطاً.
ويقدم الشريشيّ رأيَين في إنشاء الحريريّ مقاماته يرجّح أحدهما على الآخر دون التعريج على قضية الانتحال، مما يعني أنّ أمرها لم يكن قد ظهر وشاع، وإلاّ لكان أشار إليها هو وابن الخشاب البغداديّ في اعتراضه على الحريريّ وانتقاداته لمقاماته.
- الرأي الأوّل: "أنّ الذي أشار على الحريريّ كتابة المقامات هو شرف الدّين أنو شروان بن خالد وزير الخليفة، أمره بإنشاء المقامات وحكم عليه بها. وقيل: أمره بها صاحب البصرة وواليها". وضمن هذا الرأي يقدم الشريشيّ سنداً متصلاً يكشف عن دافع الحريريّ في تأليف مقاماته، إذ ينقل عن الفنجديهيّ -من أقدّم شرّاح مقامات الحريريّ- أنّ الحريريّ قال في بغداد: "أبو زيد السروجيّ كان شحاذاً بليغاً، ومُكدّياً فصيحاً، ورد علينا البصرة، فوقف يوماً في مسجد بني حرام يتكلّم، ويسأل شيئاً، وكان بعضُ الولاة حاضراً، والمسجد غاصٌّ بالفضلاء، فأعجبهم بفصاحته، وحسن صناعته وملاحته، وذكر أسر الروم ابنته، كما ذكرنا في المقامة الحراميّة، وهي الثامنة والأربعون، قال: فاجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعةٌ من معارف فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيتُ لهم ما شاهدتُ من ذلك السائل، وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وطرافة إشارته في تسهيل إيراده؛ فحكى كلّ واحد من جلسائي أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلاً أحسن مما سمعت. وكان يغيّر في كلّ مسجد زِيَّه وشكله، ويُظهرُ في فنون احتياله، فعجبوا من جريانه في ميدانه، وافتتانه في إحسانه، قال الحريريّ؛ فابتدأت في إنشاء المقامة الحرامية تلك الليلة، حاذياً حَذوه، فلمَّا فرغتُ منها أقرأتها جماعةً من الأعيان، فاستحسنوها غاية الاستحسان، وأنهوا ذلك إلى وزير السّلطان، واقترحوا عليّ أخواتها، والله المستعان".
هذا الرأي، رغم وجاهته، لا يُمكن أنّ يكون تفسيراً لإنشاء المقامات، لسبب وجيه: أنه يغفل ما نصّ عليه الحريريّ نفسه في فاتحة المقامات من أنه أراد أنْ يُعارض مقامات الهمذانيّ، وأنْ يُعيد للأدب بهاءه ورونقه المفقود.
- الرأي الثاني: وهو المُرجّح من الشّريشيّ الذي يعتمد، في كلّ مرّة، على السند المتصل، فيقول: "لكنّ الذي ثبت عندنا، هو ما حدّثني به الشيخ الفقيه أبو بكر بن أزهر أنّ الفقيه الراوية أبا القاسم بن جَهور، حدّثه أنّ الحريريّ حدّثه أنّ قصّة المقامة الثامنة والأربعين حقّ، وأنّ رجلاً قام بمسجد بني حرام، فأظهر التوبة من ذنبه، وسأل عن الوجه في كفّارته، فقام رجلٌ من بين الناس، فذكر أسر ابنته، فنظم الحريريّ القصّة وجعلها مقامة، وأنها أوّل مقامة أثبتت في الكتاب. وكان ابن جهور يقول: إنّ الذي أشار إليه بها في قوله: (فأشار من إشارته حكم) هو المستظهر بالله العباسيّ، وكان لهذا المستظهر رغبةٌ في الطّلب، وحظٌّ من الأدب، وعناية بأهل العلم".
وباستناده إلى رواية ابن جهور، يؤكد الشّريشيّ صلاتِ الحريريّ بمؤسسة الخلافة والحفاوة التي كان يلقاها من الخليفة العباسيّ المستظهر بالله الذي أوعز إليه بتأليف المقامات. يقول: "وحدّث ابن جهور أنه دخل بغداد في أيامه وبها ألف رجل وخمسمائة رجل حامل علم، وكلّهم قد أثبت أسماءهم السّلطان في الدّيوان، وأجرى على كلّ واحد من المال بقدر حظّه من العلم. وكان ابن جهور يُحدّث أنّ الحريريّ ألّف المقامات كلها على الرّكاب، وذلك أنّ المستظهر بالله لما أمره بصنعتها، أُخرج كالحافظ على العمّال، فكان يخرج في الأبردين يتمشّى في ضفّتي دجلة والفرات، ويصقل خاطره بنظر الخضرة والمياه، فلم ينقض فضل العمل إلا وقد اجتمع له مائتا مقامة، فخلّص منها خمسين وأتلف البواقي، وصدّر الكتاب، ورفعه إلى السّلطان، فبلغ عنده أسنى المراتب".
هذا الرأي يجعل من الحريريّ ربيباً للسلطة؛ فهو من مقرَّبي الخليفة وملازميه، وأكثرهم رفعة وحظوة. ولعلّ صورة الحريريّ التي يعرضها الشريشيّ تكشف عن أرستقراطية ثقافية كانت تسود القصر العباسيّ في بغداد من جهة، وعن امتيازات الحريريّ ومكانته الرفيعة من جهة أخرى.
أما ياقوت الحمويّ (ت. 626 هـ) فقدّم آراء يشتبكُ فيها الذاتي بالموضوعي، وهي تُجمع على مكانة الحريريّ الكبيرة، وقد تدرّج الحمويّ، في تقريب صورة الحريريّ، بدءاً بولادته وإقامته ومروراً بمقاماته وانتهاء بترسّله وتآليفه. ويعرض ياقوت الحمويّ خبرين قائمين على بنية إسنادية يتناولان روايتين تفسّران دوافع كتابة المقامات وملابسات ظهورها:.
- الخبر الأول: ويتصل في نهايته الإسنادية إلى الحريريّ صاحب المقامات الذي قال: "أبو زيد السّروجيّ كان شيخاً بليغاً ومكدّياً فصيحاً، ورد علينا من البصرة فوقف يوماً في مسجد بني حرام فسلَّم ثم سأل الناس، وكان بعضُ الولاة حاضراً والمسجدُ غاصٌّ بالفضلاء فأعجبتهم فصاحته وحُسنُ صياغة كلامه وملاحته، وذكر أسرَ الروم ولده، كما ذكرنا في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون، قال: واجتمع عندي عشيةَ ذلك اليوم جماعةٌ من فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعتُ من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كلُّ واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلاً أحسن مما سمعت، وكان يُغيّرُ في كلِّ مسجد زيَّه وشكله، ويُظهرُ في فنون الحيلة فضله، فتعجّبوا من جريانه في ميدانه، وتصرّفه في تلوّنه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثمّ بنيتُ عليها سائر المقامات وكانت أوّل شيءٍ صنعته".
هذا الخبر يؤكّدُ المنزلة الرفيعة التي تبؤاها الحريريّ في البصرة، فهو من الشخصيات البارزة في المدينة دون توضيح طبيعة هذا البروز. فهذا الخبر لا يكشف عن طبيعة عمل الحريريّ التي تكاد الروايات تختلف بشأنها وتضطرب، فهو مرة صاحب ثروة وضياع، ومرة بخيل دميم الخلق وقذر الهيئة والنفس، ومرة صاحب سلطان يعمل في ديوان الخراج، ومرة صاحب الخبر يعمل في ديوان البريد!.
- الخبر الثاني: ويتسم بغياب الإسناد، وهو أمر لا يضعفُ المتن فحسب، بل إنه يعرّضُ مبدأ الرواية الأدبية للشكّ. يقول ياقوت الحمويّ: "وحدثني من أثق به أنّ الحريري لما صنع المقامة الحرامية وتعانى الكتابة فأتقنها وخالط الكتاب أصعد إلى بغداد، فدخل يوماً إلى ديوان السلطان وهو مُنْغَصٌّ بذوي الفضل والبلاغة، محتفلٌ بأهل الكفاية والبراعة، وقد بلغهم ورود ابن الحريري، إلا أنهم لم يعرفوا فضله، ولا اشتهر بينهم ببلاغته ونبله، فقال له بعض الكتاب: أي شيء تتعانى من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه؟ فأخذ بيده قلماً وقال: كل ما يتعلق بهذا، وأشار إلى القلم فقيل له: هذه دعوى عظيمة، فقال: امتحنوا تخبروا، فسأله كلُّ واحد عما يعتقد في نفسه إتقانه من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتمِّ خطاب حتى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أنو شروان بن خالد، فأدخله عليه ومال بكليته إليه وأكرمه وأدناه، فتحدثا يوماً في مجلسه حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السروجي المقدم ذكره، وأورد ابن الحريري المقامة الحرامية التي عملها فيه، فاستحسنها أنو شروان جداً وقال: ينبغي أن يضافَ إلى هذه أمثالها ويُنسجَ عن منوالها عدة من أشكالها. فقال: أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة وتجمع خاطري بها، ثم انحدر إلى البصرة فصنع أربعين مقامة، ثم اصعد إلى بغداد وهي معه وعرضها على أنو شروان فاستحسنها وتداولها الناس، واتهمه من يحسده بأن قال: ليست هذه من عمله لأنها لا تناسب فضائله ولا تشاكل ألفاظه، وقالوا: هذا من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده فادَّعاها لنفسه، وقال آخرون: بل العرب أخذت بعض القوافل وكان مما أُخِذَ جرابُ بعض المغاربة وباعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادّعاه، فإن كان صادقاً في أنها من عمله فليصنع مقامة أخرى. فقال: نعم سأصنع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوماً فلم يتهيأ له تركيب كلمتين والجمع بين لفظتين، وسوّد كثيراً من الكاغد فلم يصنع شيئاً فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه ويعيطون في قفاه كما تقول العامة، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك، وأصعد بها إلى بغداد فحينئذ بان فضله...".
* الخلاصة.
لقد سطا الحريريّ فعلاً على المقامات وانتحلها وادّعاها لنفسه؛ ذلك أنّ جميع المصادر تؤكد مسألة حصره وعيّه في بغداد وعدم قدرته على كتابة مقامة واحدة،في حين أنه لما كان يرجع إلى البصرة كان يأتي بالبديع من المقامات والأعاجيب من التأليف. بيد أنّ الحريريّ نجح في عدم ترك أي دليل يؤكد سطوه وانتحاله وسرقته، فكلّ الأدلّة تتهاوى أمام إعجازه الإبداعيّ الرفيع، لكنه -هو يفعل ما فعل- خلّف دليلاً يمكن أنْ يصمد أمام تحليل مُسْتَأنف، هذا الدليل هو قول الحريري نفسه: "من سرق ورقّ فقد استحقّ".
لقد نجح الحريريّ في أنّ تكون سرقته خفيّة ورقيقة، حيث عمّى على دارسيه وجعلهم في حيرة من أمرهم، لذلك استحقّ أنْ يُخلّد في سجل الخالدين والكبار.