ليس صحيحاً الزعم بأن زيارة الرئيس الاميركي جورج ''الثالثة'' للعراق (منذ الغزو) وهبوط طائرته المقصود في قاعدة ''الاسد'' الجوية بمحافظة الانبار العراقية، تصادفت على نحو ''غير'' مقصود، مع الاعلان عن انتهاء انسحاب القوات البريطانية من قاعدتها داخل ''القصور'' الجمهورية في البصرة الى محيط المطار خارج المدينة العراقية الجنوبية الأهم..
''الانسحاب'' البريطاني الى خارج البصرة بما هو تخل عن ادارة شؤون المدينة وخصوصاً الشأن الامني، كان معروفاً لدى قيادة الجيش الاميركي في العراق، وبالتأكيد لدى ادارة بوش، ولهذا اندلعت حملة الانتقادات الاميركية لقرار رئيس الوزراء البريطاني ''الجديد'' غوردن براون هذا، الذي لا يخفي سعيه الحثيث لإحداث قطيعة مع سياسات سلفه توني بلير، الذي زج ببلاده في حرب غير مشروعة، تحت حجج وذرائع متهافتة ثبتت بالدليل القاطع انها اكاذيب أصرّ المحافظون الجدد على اعتبارها حقائق لتسويغ غزوهم للعراق وصموا آذانهم عن سماع تحذيرات قادة الجيوش البريطانية الذين لفتوا نظرهم الى ''قصور'' الخطط العسكرية عن تحقيق الاهداف الموضوعة وخصوصاً استتباب الأمن ونشر الديمقراطية والانتقال بعراق ما بعد صدام الى مرحلة جديدة..
ليس عبثاً والحال هذه ان تتوالى حملة الانتقادات البريطانية اللاذعة للاداء الاميركي الفاشل طوال السنوات الاربع الماضية وكانت عبارة السير مايك جاكسون قائد الجيوش البريطانية الاقسى في هذا الاتجاه عندما وصف رهط المحافظين الجدد بأنهم قادرون على شن الحروب لكن ليس لديهم ادنى موهبة او تصور لبناء الدول..
عودة الى نموذجي الانبار (الاميركي) والبصرة (البريطاني)..
من حق غوردن براون، ان لا يرى في انكفاء قواته خارج مدينة البصرة هزيمة، لكن مجرد ذكره لمصطلح الهزيمة يعني ان الامر كذلك وان ما جرى ان هي الا خطوة على طريق الانسحاب والاعتراف بالعجز عن وقف الخسائر او اركاع العراقيين لمخطط نهب ثرواتهم واعتبار بلدهم قاعدة الانطلاق الاميركية البريطانية لاعادة رسم خرائط المنطقة وبما يخدم مصالح المجمع الصناعي العسكري البترولي ويمكّن اسرائيل من لعب دور الدولة المهيمنة في الشرق الاوسط.
ومن حق الرئيس الاميركي جورج بوش كذلك، ان يجد في ''نموذج الانبار'' الذي لم يشر احد من المعلقين او المتابعين وحتى داخل اوساط الكونغرس الاميركي بأنه نموذج حقيقي او هو نموذج ناجح، سوى ما يحاول اركان ادارة بوش تسويقه عشية تقرير (بترايوس - كروكر) من ان تسليح 13 الف سنّي لمواجهة تنظيم القاعدة، هو الذي سينقذ المشروع الاميركي المهزوم في العراق. وخصوصاً ان حكومة المالكي وباقي اطياف الميليشيات وامراء الحرب ''الجدد''، الذين يقفون الى جانب المالكي او يضغطون عليه لتعظيم امتيازاتهم وصرف نظره عن مقارفاتهم وجرائمهم البشعة، يرون في هذه المقاربة الاميركية اشارة او بداية انقلاب لصالح الطائفة السنية على نحو يذكرهم بما كانت الحال عليه قبل سقوط بغداد..
ليس الامر كذلك، بالتأكيد لا في ذهن بوش ولا في قراءة المالكي وامراء الحرب الجدد وقادة الميليشيات الذين ينطلقون من عقلية ثأرية واقصائية، وحسابات فئوية ومذهبية ضيقة، واخر ما يفكرون به هو اقامة عراق جديد، ديمقراطي وتعددي، يحترم حقوق الانسان ويسود فيه القانون ويتم تداول السلطة فيه على نحو سلمي بعيداً عن العنف وخصوصاً في رفض ثقافة المحاصصة الطائفية او المذهبية او الجهوية او العرقية..
ما يحدث في العراق ابعد من ان يحصر في ممارسات تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين على رغم ما تحدثه المقارفات الارهابية لهذا التنظيم من ردود فعل طائفية ومذهبية، وما توقعه من خسائر فادحة في صفوف المدنيين.
المأزق الاميركي اشد عمقا في فشله وانعدام حيلته بعد انهيار المشروع الامبراطوري الذي اعتبر المحافظون الجدد، ان العراق هو قاعدته ونقطة الانطلاق لتعميمه.. ثمة مقاومة عراقية توجه ضربات موجعة للاميركيين و(البريطانيين) وتوقع في صفوفهم خسائر فادحة في الارواح والعتاد، وثمة انهيار في منظومة الامن والخدمات والمرافق وتزايد اعداد القتلى والمهجرين واللاجئين وتفشي الفساد وسوء الادارة ونهب المال العام.. وهناك حكومة فاشلة لم تنجح في انجاز أي ملف او تفي بأي وعد قطعته على نفسها بل هي انخرطت بكليتها في ممارسات طائفية ومذهبية، وخضوع (ان لم نقل تواطؤاً ومشاركة) للميليشيات الطائفية التي باتت تتحكم بتفاصيل المشهد العراقي.
ليس غريبا او مفاجئا والحال هذه ان يبني الرئيس الاميركي خطوته اللاحقة على الاوهام التي صنعها بنفسه او نسبها الى الجنرال بترايوس والسفير كروكر، عندما استند الى نموذج الانبار ليفجر مفاجأته بالقول: يمكن الحفاظ على المستوى الحالي ''للامن'' في البلاد (العراق)، باستخدام قوات اميركية اقل''..
إذاً هو يخطط لخفض عدد القوات الغازية وهو نصف استجابة او استجابة مراوغة لمطلب الديمقراطيين وبعض الجمهوريين بتحديد جدول زمني لسحب القوات الأميركية من العراق حتى نهاية العام الجاري.
اللافت في وقائع الايام الثلاثة الاخيرة، ودائماً اميركياً وبريطانياً هو التطابق في مضامين الكلمات التي برر بها كل من غوردن براون وجورج بوش خطواتهما في كيفية معالجة استحقاق الفشل الذريع الذي لحق بمغامرة بلديهما في العراق.
براون يقول ان الانسحاب من قصور الرئاسة في البصرة لا يشكل هزيمة ابدا.
فيما يمضي بوش في طريق الانكار والمكابرة لكن الواقع يفضح اقواله المرتبكة:''... بعبارة اخرى عندما نبدأ خفض القوات في العراق، سيكون ذلك انطلاقاً من مركز قوة ونجاح وليس من منطلق خوف وفشل''! .. ماذا عن تحالف الراغبين مستر ''بريزندت''؟.
Kharroub@jpf.com.jo