عدي مدانات - في غمرة الاحتفالات بأسطول كسر الحصار عن غزة، والاحتفاء بالموقف التركي الحازم في مواجهة عصابة القراصنة الدخيلة، التي تحتل أجزاءً من وطننا العربي، وتؤسس لما تدّعيه دولة يهودية على ترابنا الوطني، استدعت الحاجة التذكير بموقف آخر اتخذته الحكومة التركية، بإعادة الاعتبار والجنسية لواحد من أبطالها، وأفضل شعرائها ولو ميتاً، بعد مرور أكثر من نصف قرن على سحبها منه، بقرار أصدره النظام السابق الموالي للمعسكر الإمبريالي، مما يؤذن بإمكان نقل رفاته ليدفن في وطنه، ويفسح المجال لإحياء ذكراه، ليس على صعيد تركيا وحسب، وإنما على جميع الأصعدة، وفي مقدمتها الصعيد الثقافي العربي والعالمي.
إنه فخر تركيا، أفضل شعرائها، وأحد أفضل ثلاثة شعراء في القرن العشرين وفق ما أجمع عليه العالم: ناظم حكمت.
تربّى حكمت على فيوض شعره الرائع والملهم، وروحه السمحة غير الهيابة، الحاضنة لقضايا الإنسان وقضايا شعبه، وشعوب العالم المغلوبة على أمرها، أجيال من الكتاب. وفي هذا الوقت الذي نفضت فيه تركيا رداء الذل والتبعية واستعادت نفسها وكرامتها، واستعادت أبطالها، وأخذت مكانها الصحيح كدولة تتعافى، دولة كل الشعب التركي، وليس دولة طبقة أثريائها الذين استساغوا التبعية للخارج، والدكتاتورية في الداخل لحماية مصالحهم الأنانية الضيقة، آن الأوان للاعتراف باعتزاز بأن ناظم حكمت هو شاعر تركيا الأعظم والإنسانية برمتها، ونشر إنتاجه الأدبي الرائع بكامله بعد أن كان محرّماً.
ومكمن السعادة أن القرصنة الإسرائيلية الغاشمة والرد التركي الحازم، عملا بالتزامن على إعادة اسم وأدب ناظم حكمت، شاعر تركيا والإنسانية جمعاء إلى الواجهة، ما يعني أن الشعب التركي العظيم سيتغنى في العلن الآن بشعر حكمت، بعد أن كان يتغنى به في السر.
فمن هو ناظم حكمت، الذي اقترن اسمه بكل ما هو نبيل شريف وجوهري، وحاضن لهموم الإنسان التركي، وهموم الإنسان أينما وُجد؟.
إنه الشاعر والمناضل السياسي الذي وهب حياته وقصائده لخلاص شعبه والإنسانية برمتها من العبودية، رافعاً راية الحب والجمال والإخاء بين البشر، ناشراً نسيجه الرقيق والفاتن دثاراً، حانياً على الفقراء والمضطهدين، جامعاً وموحداً لهم، مندداً بالجشع الرأسمالي.
قضى حياته في السجون والمنافي، غير كسير الخاطر، وإنما رافعاً رأسه وصوته داعياً أبناء جلدته وسائر البشر في كل بقاع الأرض ليرفعوا رؤوسهم كذلك، ويحتفلوا بالحياة، رغم الصعوبات وبشاعة النظم الرأسمالية والدكتاتورية المتحكمة بمصائر الشعوب.
ستة وخمسون سنة هي مجموع الأحكام التي صدرت بحقه، فكان لا يخرج من السجن إلاّ ليدخله مرة ثانية، وهو في دخوله وخروجه، يتغنى بالإنسان والحب ويحض على التجلد ورفع القامة والرأس، فلا يأس مع المحبة واختيار الحرية، ولا ضعف مع الاصطفاف إلى جانب الشعب، ولا مهادنة مع الطغاة، في اختيار النضال من أجل حياة حرة كريمة.
وُلد العام 1902 في سالونيك لأسرة أرستقراطية، والده دبلوماسي رفيع، ووالدته رسامة وعازفة بيانو، لكنه اختار الحياة على طريقته الخاصة به، ويا لها من حياة، حياة شظف وكفاح، قضاها في السجون والمنافي. التحق بحركة كمال أتاتورك في أول شبابه معجباً بأفكاره، وخدم في شبابه فترة قصيرة في الجيش، ثم ترك ليذهب في بعثة دراسية إلى الاتحاد السوفياتي، وطن الثورة البلشفية والاشتراكية، وهناك تشرب الفكر الماركسي، وعاد إلى تركيا لينتسب للحزب الشيوعي التركي، ويصبح منذ ذلك الوقت، هدفاً للملاحقة والسجن، بوصفه مكرساً شعره ونشاطه لصالح الشعب، وبوصفه عصيّاً على التطويع، فكانت الملاحقة والسجن هو كل ما حصل عليه، ومن غريب الأمر أن كمال أتاتورك لم يعمل على تجنيبه الأذى.
مات كمال أتاتورك العام 1938، ليبدأ في تركيا فصل جديد من الدكتاتورية والفاشية، بتولي عصمت اينونو السلطة على رأس حزب الشعب الجمهوري، وإقدامه على حل الأحزاب ومصادرة الصحف وحرية الرأي. كان ناظم حكمت أهم ضحاياه وأكثرهم شهرة وشعبية، غير أن الطاغي لا يكترث بالرأي العام، وإنما بمصلحته الأنانية الضيقة، فأقدم على زج ناظم حكمت في السجن وتقديمه للمحاكمة في ظل قانون مكافحة الشيوعية البغيض. صدر الحكم بسجن حكمت، فالمحاكم في ظل الأنظمة الفاشية والدكتاتورية العميلة، تحكمها الأوامر وليس القانون والضمير والحق. امتدت فترة سجنه ثلاث عشرة سنة، لم يستسلم خلالها، ولم يهن عزمه، ولم يسكت عن الغناء، فكان صوته يجتاز أسوار السجن وينتشر في أرجاء تركيا والعالم بأسره، مما وضعه في مقدمة شعراء العالم الأحرار.
خسر حزب الشعب انتخابات العام 1950، وفاز فيها الحزب الوطني التركي، فتهيأت الفرصة للإفراج عن حكمت، على إثر الحملة العالمية المتعاظمة للمطالبة بإطلاق سراحه، فقد انبرى كبار شعراء العالم ومثقفيه شخصياته البارزة، منذ العام 1949لقيادة الحملة، وفي الوقت نفسه وعلى الصعيد الداخلي، تنامت هبة شعبية متزامنة مع الحملة العالمية للمطالبة بإطلاق سراحه، فكان أن استجاب الحزب الوطني التركي الذي أطاح بغريمه، للحملة الوطنية والعالمية وأفرج عنه، مبرئاً إياه من ارتكاب جرائم تستحق العقاب. غير أن إطلاق سراح حكمت لم يعفه من تضييق الخناق عليه، وتشديد الرقابة والملاحقة التعسفية، مما اضطره للهرب إلى رومانيا، ومنها إلى الاتحاد السوفياتي حيث قضى فيه آخر سنوات حياته.
كشفت الحكومة الموالية لحلف الناتو الامبريالي برئاسة الحزب الوطني، عن وجهها القبيح وحقدها على مثقفيها التقدميين ورموزها الوطنيين، فصادرت جنسيته، وأعلنت الحرب على قصائده بمنع تداولها، ومحاكمة من يجرؤ على التغني بها، غير أنها لم تفلح في انتزاع محبته من صدور أبناء شعبه وإطفاء شعلة شعره، فكان هو الشاعر الذي يفاخر به كل تركي محب لوطنه.
زرت تركيا مرات عدة، وعرفت مثقفين أتراكاً وكوّنت صداقات معهم وسألتهم عن ناظم حكمت، فحدثوني عنه بحماسة. كانوا يحفظون أشعاره ويرددونها في السر، لأنها كانت ممنوعة في تركيا، خصوصا إبان حكم جنرالات الحكم العسكري المتحالفين مع الإمبريالية الأميركية، على غرار حكم معظم الجنرالات الذين استلموا السلطة بتدبير استخباراتي أميركي للإطاحة بالحكومات الوطنية (مثل ما حدث في التشيلي وأندونيسيا). وقد عثرت على قصة تُظهر مدى الخوف من قصائد ناظم حكمت، فقد زُج بطالب في السجن العام 2005، وأُلصقت به تهمة ممارسة نشاط يقوّض أركان الدولة، لأنه تلا إحدى قصائد ناظم حكمت على زملائه.
كتب ناظم حكمت قصيدة العام 1962 أي قبل موته بعام، جاء فيها:
"إذا كنت أنت الوطن
والمدافع عن الوطن
وإذا كانت الوطنية مزارعك
وإذا كانت هي ممتلكاتك
وودائعك المصرفية
أو الموت جوعاً على قارعة الطريق
ومص دمائنا في مصانعك
وإذا كان الوطن هراوة الشرطي
وإذا كانت الوطنية هي القواعد والقنابل والصواريخ الأميركية.
إذاً أنا خائن".
وكان قد قال:
"إذا لم أحترق أنا
وتحترق أنت
ونحترق نحن
فمن ذا الذي ينير الطرقات؟".
ترك حكمت وصية بأن يُدفن في ريف تركيا بجانب جذع شجرة، فلم تنتزع سنوات القهر والسجن والمنفى حبه لبلده، غير أن وصيته لم تتحقق إلى الآن، فمثلما شكّل وجوده حياً خطراً على أنظمة التبعية والقمع، عُدَّ جثمانه ميتاً بالخطورة نفسها. وفي حب تركيا يقول بمرارة:
"يا وطني يا وطني
اهترأت قبعتي التي اشتريتها من دكاكينك
وتقطّع حذائي الذي حمل تراب شوارعك
آخر قميص لي اشتريته، وأنا في تركيا
صار مقطع الأوصال، منذ زمن
يا وطني لم يبق لي غير خطوط من الهموم تعلو جبهتي
يا وطني يا وطني يا وطني".
لننظر في نزر قليل من قصائده ونتساءل، هل تهدد هذه القصائد أركان الدول، وهل كان ناظم يستحق كل ذلك الاضطهاد؟ يقول في واحدة من أكثر قصائده نبلاً:
"لا تحيا على الأرض كمستأجر بيت
أو زائر ريف وسط الخضرة
لتحيا على الأرض، كما لو أن العالم بيت أبيك
ثق في الحب وفي الأرض وفي البحر
امنح حبك للسحب وللآلة والكتب
ولتمنح حبك قبل الأشياء كلها للإنسان".
وفي قصيدة أخرى موجهة إلى فقراء وطنه يقول:
"ضمد جراحك بيديك الرهينتين
وعض على شفتيك مقاوماً الأوجاع
أيها الفقراء في بلادي
إنني معكم
لم تحولني الريح إلى ورقة في مهبها
لقد سقت الريح أمامي".
ويقول في قصيدة أخرى:
"منذ دخلت السجن
دارت الشمس عشر دورات
فإذا سألتموها قالت لكم:
إنها سنوات عشر من عمري
في العام الذي دخلت فيه السجن كان معي قلم رصاص
ظل يكتب حتى فنِيَ في أسبوع
فإذا سألتموه قال لكم:
إنها حياة كاملة
وإذ سألتموني أجبتكم:
إنه أسبوع
فيا أيها الإنسان لا تبالي".
النظم الفاشية وتلك التي تسير في الفلك الأميركي، سواء بسواء، تخشى على فاشيتها وتبعيتها ممن يرفع رأسه عالياً ويصدح بصوته معبّراً عن ضمير شعبه، من يكرس فكره وأدبه وفنه لصالح القضية الوطنية وحرية الرأي، من تمتلئ نفسه بفيوض الحب والجمال، فيعكسه أدباً وفناً، وعلى هذا كان ناظم حكمت الذي امتزجت حياته بهموم الشعب التركي وقضاياه العادلة، ضحية نظم لا تعيش إلاّ على معاداة المفكرين والأدباء وقهرهم، وزجهم في السجون، غير أن ما من أحد من رجالات الحكم في تركيا سواء في عهدها الفاشي أو عهدها المرتبط بالعجلة الأميركية، نجح في أن يكمم فم ناظم حكمت، وأن يسجن قصائده، فأجمل قصائده كُتبت في السجن، ثم خرجت ترفرف طليقة في سماء تركيا، ليلتقطها الناس الشرفاء محبو الحرية، ويتداولونها في السر.
وها هي تركيا الجديدة، إذ تعلن طلاقها مع سياسة التبعية والخنوع، وتستعيد استقلال قرارها السيادي وكرامتها، تواجه الغطرسة والبلطجة الإسرائيلية والأميركية بعزة نفس، وتقف إلى جانب قضيتنا العادلة، تماماً كما كان ناظم حكمت يجابه الطغيان ويقف في صف شعبه وشعوب العالم، وما قصائده الموجهة إلى الإفريقية تارنتا بابو، سوى تعبير عن انتمائه للمظلومين أنّى كانوا.
مما يطيّب الخاطر أن حكومة حزب العدالة والتنمية أعادت الجنسية التركية إلى ناظم حكمت، فأثلجت صدور حتى المختلفين معها عقائديا، مما دعا صحفيا علمانيا إلى القول رداً على من وصف القرار بأنه عمل سياسي: "لا يهم إذا كانت هذه سياسة أم لا، قلت سابقاً، إن هذه الحكومة ستجعلني عضواً في حزب العدالة والتنمية. غير أن إعادة الجنسية لا تكفي، فمن حق الشعب التركي أن يقيم نصباً لرفاته في أرضه، نصباً يتيح لجميع الأتراك زيارته".