د.ايمن حتمل
عندما يقرأ المسلم في سيرة سلفنا الصالح رضوان الله عليهم يشعر بالفخر والعزة ، وتنطلق في نفسه براكين الهمة والمعالي، ولم يقصّر العلماء الأوائل في الكتابة عن فضائلهم وإنجازاتهم، لكن الكتاب المعاصرين يُعتب عليهم في أنهم قصروا في إظهار بعض الشخصيات، ومن هؤلاء العظام الذين كانت هممهم كالجبال الراسية العباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، من آل البيت ومن الصحابة المهاجرين إلى المدينة، ويرجع اليه الأشراف العباسيون في نسبهم.
وكان من المسلمين الأوائل وقد كتم إسلامه، فيقول أبو رافع خادم الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (كنت غلاماً للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس، وأسلمت أمُّ الفضل، وأَسْلَمْتُ، وكان العباس يكتم إسلامه)... ، وكانت قريش دوما تشك في نوايا العباس، ولكنها لم تجد عليه سبيلا وظاهره على ما يرضون من منهج ودين، كما ذُكِرَ أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد أمر العباس بالبقاء في مكة: (إن مُقامك مُجاهَدٌ حَسَنٌ)... فأقام بأمر الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
وفي بيعة العقبة الثانية عندما قدم وفد الأنصار إلى مكة في موسم الحج ، أنهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- نبأ هذا الوفد إلى عمه العباس فقد كان يثق بعمه في رأيه كله. فلما اجتمعوا كان العباس أول المتحدثين فقال: (يا معشر الخزرج، إن محمدا منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، فهو في عز من قومه، ومنعة في بلده، وإنه قد أبى إلا الإنحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه، ومانعوه ممن خالفه فأنتم وما تحملتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج به إليكم فمن الآن فدعوه، فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده)... وكان العباس يلقـي بكلماتـه وعيناه تحدقـان في وجـوه الأنصار وترصـد ردود فعلهم...
وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يذكُر بالمدينة ليلة العقبة فيقول: (أيِّدتُ تلك الليلة، بعمّي العبّاس، وكان يأخذ على القومِ ويُعطيهم).و كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يحبهُ حباً كثيرا، حتى أنه لم ينم حين أسِرَ العباس في بدر، وحين سُئِل عن سبب أرقه أجاب: (سمعت أنين العباس في وثاقه)...
فأسرع أحد المسلمين إلى الأسرى وحلّ وثاق العباس وعاد فأخبر الرسول -صلى الله عليه وسلم- قائلا: (يا رسول الله إني أرخيت من وثاق العباس شيئا)... هنالك قال الرسول لصاحبه: (اذهب فافعل ذلك بالأسرى جميعا)... فحب الرسول للعباس لم يميزه على غيره، وقال فيه: (إنما العباس صِنْوُ أبي،فمن آذى العباس فقـد آذاني) وقد فدا العباس نفسه ومن معه يومَ بدر ، ثم عاد إلى مكة ،وفيه نزل قول الله تعالى: (يا أيُّها النّبيُّ قُـلْ لِمَن في أيْديكُمْ مِنَ الأسْرَى إن يَعْلَمِ اللّهُ في قلوبكم خيراً يُؤْتِكُمْ خيراً ممّا أُخِذَ منكم ويغفرْ لكم واللّهُ غَفورٌ رحيمٌ) (سورة الأنفال /7) ، ولمّا كان العباس إلى جوار النبي -صلى الله عليه وسلم- يوم حُنين يتحدى الموت والخطر، أمره الرسول أن يصرخ في الناس فصرخ بصوته الجهوري: (يا معشر الأنصار، يا أصحاب البيعة ، يا أصحاب السمُرة ( أي الشجرة)... فأجابوه: (لبيك، لبيك)... وانقلبوا عائدين بسرعة نحو العباس ليحموا رسول الله ، ودارت المعركة من جديد وغُلبت هَوَازن وثقيف...
في عام الرمادة حين أصاب العباد قحط، خرج أمير المؤمنين عمر والمسلمون معه إلى المصلى يصلون صلاة الاستسقاء، ويضرعون إلى الله أن يرسل إليهم الغيث والمطر، ووقف عمر وقد أمسك يمين العباس بيمينه، ورفعها صوب السماء وقال: (اللهم إنا كنا نستسقي بنبيك وهو بيننا، اللهم وإنا اليوم نستسقي بعمِّ نبيك، فاسقنا)...
ولم يغادر المسلمون مكانهم حتى جاءهم الغيث، وهطل المطر، وأقبل الأصحاب على العباس يعانقونه ويقبلونه ويقولون: (هنيئا لك... ساقي الحرمين). وفي عهد عمر بن الخطاب تصدق بدارهِ لتوسعة المسجد .
فالعباس بن عبد المطلب كان جوّادا, مفرط الجود, حتى كأنه للمكارم عمّها أو خالها، وصولا للرحم والأهل, لا يضنّ عليهما بجهد ولا بجاه, ولا بمال ، نسأل الله تعالى أن يحشرنا معهُ في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة ، إنهُ تعالى الكريم الرحيم .......