المحامي خليل البنا - نسمع الكثير من العبارات والكلمات على ألسنة الغالبية العظمى من الناس ويستدلون بها في نظرهم في كل شؤون حياتهم، وليس بالضرورة صحة من يقال ما دام خارجاً عن السند والمرجعية والتجربة وبصدق على ما يقولون قول الله تبارك وتعالى في الاية 17 من سورة الرعد (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال) واعتقد جازماً انه آن الأوان لغربلة كل شيء وتمحيصه ووزنه بميزان العقل والمصلحة (فكفى بالعقل هادياً وإماما) كما يقول شاعر الفلاسفة أبو العلاء المعري والكلمات كان لها فعل السحر وستظل فما من إنسان الا وتأسره الكلمات صحيحة أم معتلة، صادقة أم كاذبة، طيبه أو خبيثة (وفي البدء كان الكلمة) كما جاء في الإنجيل المقدس ومصداقاً لقوله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه في كتابه الكريم في الآيات 27،26،25،24 من سورة إبراهيم (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من الأرض ما لها من قرار، يثبت الله الذين امنوا في القول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء) صدق الله العظيم.
أقول ذلك ونحن نسمع كل يوم. من هذا وذاك عبارات درج الناس على النطق بها والاستدلال في معرض تذاكيهم وادعائهم للمعرفة والإحاطة بكل شيء. ومنها قواعد قانونية لا يبت في مضمونها وفحواها ومعناها الا أهل الدراية والاختصاص والعلم والبرهان ممن اوتوا نصيبا من القدرة على التحليل والتفسير والاستنباط والتعليل ومٌنحوا الموهبة على الاجتهاد في مورد النص ضمن رؤية بعيدة الغور وإمعان فكر ونظر وعصف ذهني لما فيه المصلحة ويطوعون النصوص الجامدة لتكون في متناول أيدي حاملي رسالة القضاء والتعبد في محرابه... ومن بين هذه العبارات التي تحتاج إلى إعادة نظر في ضوء المكتشفات والتقنيات الحديثة والتطور الذي حدث على كل صعيد هي عنوان هذا المقال (الاعتراف سيد الأدلة ) الذي يأتي ضمن سلسلة أضع فيها بين يدي القارىء الكريم الرأي الأخر لما ألفه الناس ورددوه ضمن برمجه اجتماعية واعتياد يومي دونما إطلاع ـ ربما على حقيقة هذه العبارة أو القاعدة وما ترمي إليه والأسس التي يعتد بها بالاعتراف وليس في المنطوق على علاته دون كوابح وهو ما اشتملت عليه النصوص القانونية واجتهادات محكمة التمييز الموقرة، وحيث لا يستطيع الباحث والمهتم في الشؤون القضائية وإجراءات التقاضي من تغطية كافة الجوانب فالقضاء المتجدد والمتطور بحر زاخر ليس له سواحل تحد من انطلاقاته ونشاطاته واجتهادات القائمين عليه في كل عصر ومصر. هؤلاء لهم الحق كل الحق في وزن الاعتراف أو الإقرار كما جاء في قانون البينات رقم 30 لسنة 1952 وتعديلاته وفق منطوق المادة 2 من بين وسائل الإثبات المقسمة إلى 1- الأدلة الكتابية 2- الشهادة 3- القرائن 4- الاقرار5- اليمين 6- المعاينة، كما يجب أن تكون الوقائع التي يراد إثباتها متعلقة بالدعوى ومنتجه في الإثبات وجائزا قبولها كما ورد في المادة 4 البند 1 من القانون.
الاعتراف / المعاني والدلالات.
الاعتراف لغويا/ عرف (عرفه ) يعرفه بالكسر (معرفة) وعرفاناً والاعتراف بالذنب كما يقول أبو بكر الرازي في كتابه القيم مختار الصحاح هو الإقرار به وربما وضعوا اعترف موضع عرف وبالعكس. وفي المعجم الوسيط (عرف) فلان على القوم عرافة: دبرا أمرهم وقام بسياستهم، والاسم معرفة في مصطلح النحاة ضد نكره وعٌرف فلانا الأمر: اعلمه إياه واعترف بالشيء أقرّ به ويقال اعترف بذنبه أو بخطئه... والاعتراف بالخطأ فضيلة قال تعالى في الآية 11 من سورة الملك (فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير).
الاعتراف قانونيا/ الاعتراف كما يقول الأستاذ المرحوم جندي عبد الملك في كتابه القيم الموسوعة الجنائية ـ هو إقرار المتهم بكل أو بعض الوقائع المنسوبة إليه والاعتراف في المجال الجنائي كما يقول الدكتور احمد شوقي الشلقاني رئيس محكمة جنايات القاهرة (هو إقرار المتهم بصحة الاتهامات المنسوبة إليه كلها أو بعضها) ولنضع تحت كلمة (بصحة) عدة اسطر لإبعادها حال إسناد التهمة للمتهم أو الظنين ـ والاعتراف قد يكون غير قضائي وهو ما يصدر في غير جلسة المحاكمة كصدوره في أثناء استجواب المتهم بمعرفة سلطات التحقيق أو أمام مأمور الضبط القضائي أو أمام احد الأشخاص أو في محرر دوّنه المتهم نفسه مع. تضافر الأدلة الأخرى في الدعوى مع هذا الاعتراف وقد يكون الاعتراف قضائيا فيدلي به المتهم في مرحلة المحاكمة وفي جلستها وقد عني المشرع برسم الطريقة الموصلة للاعتراف فأجاز أخذه من المتهم بطريق الاستجواب بواسطة قضاة التحقيق أو المدعون العامون وفق نصوص قانون أصول المحاكمات الجزائية الأردني رقم 9 لسنة 1961 وتعديلاته (ولكن الاعتراف لا تكون له قيمة كما يقول الدكتور جندي عبد الملك إذا انتزع من المتهم بطريق الإكراه المادي أو الأدبي) وقد فرض المشرع عقاباً صارماً على كل موظف يأمر بتعذيب أي متهم أو يفعل ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف ـ وفق ما جاء في المادة 110 عقوبات مصري وجاء في المادة 202 من قانون أصول المحاكمات الجزائية (يتولى المدعي العام بنفسه أو بواسطة احد مساعديه الادعاء على المتهمين بالجرائم الواردة في قرار الاتهام، ولا يسوغ له أن يدعي على المتهمين بأفعال خارجة عن منطوق قرار الاتهام) إذ أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته كما جاء في البند 1 من المادة 147 (وان الافادة التي يؤديها المتهم والظنين أو المشتكى عليه في غير حضور المدعي العام ويعترف فيها بارتكابه جرماً تقبل فقط إذا قدمت النيابة بينة على الظروف التي أديت فيها واقتنعت المحكمة بأن المتهم أو الظنين أو المشتكى عليه أداها طوعاً واختيارا) كما نصت المادة 159 من القانون.
ويستفاد من دلالة هذا النص وما يرمي إليه أن الافادة يجب أن تؤدى طوعاً واختيارا وليس كرها وإجبارا.
أما الإقرار وهو المعنى الأخر للاعتراف فيعني (إخبار الإنسان عن حق عليه للأخر) كما جاء في المادة (44) من قانون البينات الأردني والإقرار القضائي في المادة (45) ( هو اعتراف الخصم أو من ينوب عنه إذا كان مأذونا له بالإقرار بواقعه ادعى بها عليه وذلك أمام القضاء أثناء السير في الدعوى المتعلقة بهذه الواقعة) والإقرار غير القضائي هو الذي يقع في غير مجلس الحكم أو يقع في مجلس الحكم في غير الدعوى التي أقيمت بالواقعة المقر بها).
وتأسيسا على ما تقدم فان التداخل والتماثل بين معنى الاعتراف ومعنى الإقرار لغوياً وقانونياً يدل على أنهما في المعنى والمضمون والترادف في ذات السياق والدلالة، فالمشرع الأردني أورد كلمة الإقرار وكذلك اللبناني كما جاء في قانون الأحوال المدنية اللبناني وفق المادة 210 والتي تنص على أن (الإقرار هو اعتراف خصم بواقعة أو بعمل قانوني مدعى بأي منهما عليه ويكون قضائيا إذا تم أمام القضاء أثناء النظر في نزاع يتعلق بهذه الواقعة أو العمل ويكون غير قضائي إذا تم على هذا الوجه وعندئذ يثبت وفق القواعد العامة وفي الإثبات. والإقرار القضائي كما جاء في المادة 211 (حجة قاطعة على المقر) وتؤكد المادة 212 على أن (الإقرار لا يتجزأ على صاحبه الا إذا إنصب على وقائع متعددة وكان وجود واقعة منها لا يستلزم حتما وجود الوقائع الأخرى) (ويعود للقاضي تقدير حجية الإقرار غير القضائي بحسب الوسائل التي اعتمدت لإثبات هذا الإقرار) كما جاء في المادة 216.
الشروط القانونية في الاعتراف وأو/ الإقرار.
اشترطت المادة 47 من قانون البينات الأردني ( أن يكون المقرُّ عاقلاً بالغا غير محجور عليه فلا يصح إقرار الصغير والمجنون والمعتوه والسفيه ولا يصح على هؤلاء إقرار أوليائهم وأوصيائهم والقوام عليهم ولكن الصغير المميز المأذون يكون لإقراره حكم إقرار البالغ في الأمور المأذون بها) (ويشترط الا يكذب ظاهر الحال الإقرار) كما جاء في المادة 52 (والإقرار في غير مجلس الحكم) كما ورد في المادة 52 (لا يقبل إثباته بشهادة الشهود ما لم تسبقه قرائن قويه تدل على وقوعه) والقرائن إما أن تكون قانونية أو أن تكون قضائية.
وقد ورد في مجلة الأحكام العدلية الكثير من المواد القانونية التي تشير إلى القواعد والمصطلحات التي فيها الفائدة والمرجعية للقانونيين والمختصين ففي المادة 79 ما نصه ( المرء مؤاخذ بإقراره) والمادة 76 تقول (البينة للمدعي واليمين على من أنكر) وهي ذاتها المادة 77 من القانون المدني الأردني مع بعض التحوير والتي نصها (البينة على من ادعى واليمين على من أنكر) وفي المواد من 1572 ولغاية 1612 الإسهاب والتفصيل والسرد الذي يغني القانوني والباحث كمواد مستمدة من الفقه الإسلامي بقيت ردحا طويلا من الزمن مرجعية الحكم والفقه في ميدان القضاء.
ولا مشاحة من القول بان الاعتراف في القضايا الجنائية والإقرار في القضايا المدنية وهما من مصدر فقهي واحد لا يؤخذ على علاته دون قناعة بالأدلة التي تأخذ بها محكمة الموضوع للاستيثاق من التهمة المسندة مهما كان نوعها وشكلها ومستواها وصدقيتها فكم من برىء أدين وكم من سجين ظلم وكثيرون من أسندت لهم لوائح اتهام يندى لها الجبين وقضوا سنوات في غياهب السجون وربما وصلوا إلى حبل المشنقة أو غيبهم الموت وكانوا في أعلى درجات الاستقامة وتلفهم البراءة مما وقع عليهم من تعدي وإجحاف. وميزة القضاء العادل انه يحكم بالوقائع والبينات والأسانيد ولا يحكم القاضي بعلمه بل يتحرى الحقيقة بكل الوسائل والاساليب الممكنة التزاما بالقناعة وراحة الضمير، وفي مرفق القضاء علامات مضيئة في مسيرته قادها أولئك القضاة الأفذاذ الذين لا يخافون في الحق لومة لائم ولا سطوة مسئول ظالم.وقد نصت المادة 216 من قانون أصول المحاكمات الجزائية على ما يلي.
بعد أن يتلو الكاتب ما ذكر في المادة 215 من قرارات ووثائق وبعد أن يوضح ممثل النيابة العامة وقائع الدعوى والمدعي الشخصي أو وكيله شكواه يسأل الرئيس المتهم عن التهمه المسندة إليه.
إذا اعترف المتهم بالتهمة يأمر الرئيس بتسجيل اعترافه بكلمات اقرب ما تكون إلى الألفاظ التي استعملها في اعترافه ويجوز للمحكمة الاكتفاء باعترافه وعندئذ تحكم عليه بالعقوبة التي تستلزمها جريمته الا إذا رأت خلاف ذلك (وهل يعترف المتهمون فيما نسب إليهم أم أنهم ينفون التهمة والذنب). حتى أولئك الذين لا خلاف على تجريمهم ويقترفون مالا يقره عقل ولا دين(فكل إنسان بما كسب رهين) إذا رفض المتهم الإجابة يعتبر غير معترف بالتهمة ويأمر رئيس المحكمة بتدوين ذلك بالضبط( وهذه حماية للمتهم وتأكيدا على حقه اللصيق به دون إكراه أو إجبار لان الإكراه ينفي رجحان الصدق على الكذب في الإقرار) إذا أنكر المتهم تهمة أو رفض الإجابة أو لم تقنع المحكمة باعترافه بها تشرع المحكمة في الاستماع إلى شهود الإثبات.
وقد أشارت محكمة التمييز جزاء الموقرة بقرارها رقم 120/92 لسنة 1994 إلى انه ( لا يتفق والقانون استناد محكمة الموضوع على إفادة المتهم التحقيقية واعتبارها اعترافا بالجرم مع إنها لا تعتبر كذلك تاريخ 4/5/1993 وجاء في القرار رقم 102/93 سنة 1993 ما يلي( تقبل الاعترافات التي أدلى بها المتهمون أمام الشرطة إن أدلو بها عن طوع واختيار وقنعت المحكمة بها) تاريخ 4/5/1993 ويعني ذلك بما لا يدع مجالا للشك واللبس أن الاعتراف لا يعني ادانه فلربما جاء نتيجة التعذيب والإكراه أو الإيحاء والخوف أو التخلص من وضع معين ارتآه المتهم في لحظة ضعف ويطعن في هذه الحالة والحالات المشابهة وهي كثيرة لا مجال لحصرها ولا لعدها بعبارة أن الاعتراف سيد الأدلة.فلقد جاء في قرار محكمة التمييز جزاء 9/92 سنة 1993 ما يلي ( أن الإفادة التي يقدمها المتهم أمام الشرطة في غير حضور المدعي العام ويعترف فيها بارتكابه جرم لا تقبل الا إذا قدمت النيابة البينة على ظروف التي أديت فيها واقتنعت المحكمة أن المتهم أداها طوعا واختيارا وعليه فان اقتناع المحكمة بان اعتراف المميز ضدها لدى محكمة الشرطة جاء وليد الضغط والإكراه وبالتالي استبعاد الاعتراف المميز ضدهما على هذا الأساس لا يخالف القانون) تاريخ 15/1/1992 وهذا يدل دلالة واضحة أن الاعتراف وحده لا يكفي للتجريم خاصة إذا لم تكن الإفادة طوعا واختيارا بل تحت الضغط والإكراه: مما يدعو إلى طرحها وإطرّاحها وعدم الاعتداد بها.
وما أروع واشمل وادعى إلى الاحترام والتقدير والاعتراف بنزاهة القضاء الأردني وفاعليته وسابقته التي فيها الاحترام للإنسان وحقوقه وإنسانيته من القرار ألتمييزي جزاء رقم 445/96 لسنة 1997 والذي جاء فيه ( للمحكمة حق التقدير ووزن الاعتراف وقيمته في الإثبات إذا تم أمام المحكمة أو أمام المدعي العام وهو الاعتراف الذي تحيطه الضمانات من حيث استعانة المتهم بمحاميه وان يكون الاعتراف تم بطوع المتهم واختياره، أما الإفادة التي يؤديها المتهم في غير حضور المدعي العام فإنها تقبل إذا قدمت النيابة العامة البينة على أن المتهم أداها بطوعه واختياره، أما ذكر وقائع على لسان شخص ما أمام احد الشهود فلا يمكن اعتبارها اعترافاً طالما أنكر هذا الشخص هذه الوقائع أمام المدعي العام وأمام المحكمة لكن يمكن للمحكمة سماع شهادة هذا الشاهد ومعالجة شهادته وتقدير قيمتها فيما إذا كان لها قوة ثبوتية كدليل مستقل وليس اعتبارها اعترافاً من المتهم تاريخ 8/8/1996 وهذه إشارة واضحة أن الاعتراف أو الشهادة تكون في أحايين كثيرة معتلة لا ترقى إلى الصحة والصواب والاستدلال المجرد.
وجاء في قرار محكمة التمييز جزاء رقم 369/93 لسنة 1994 ما يلي (أن اعتراف المتهم أمام المدعي العام وان كان يشكل دليلا صالحاً للإثبات الا أن اعتماده يستلزم الحيطة والحذر والوقوف على الظروف والملابسات التي أحاطته ورافقته بما لا يدع مجالاً للشك في صحته وانه تم أداءه عن ارداة حرة دون إكراه أو ضغط فإذا ثبت من شهادات الشهود أن المتهم كان في عمله في الوقت الذي يفترض فيه وقوع الجريمة فان الافتراض سلفا أن هذه الشهادات غير صحيحة لتعارضها مع الاعتراف غير سائغ ويشوب الحكم بعيب القصور).
مدى حجية الاعتراف / الإقرار
المدعى عليه (الظنين أو المتهم) هو في الدعوى العامة الشخص الذي تطلب سلطة الاتهام نسبة الجريمة إليه ومعاقبته عنها بوصفه فاعلاً أو شريكا أو متدخلا أو محرضا فيها وهو في الدعوى المدنية التابعة للدعوى العامة المدعى عليه بتعويض الضرر بها، ويوجب المشرع على المدعي العام في حالة الجرم المشهود المستوجبة عقوبة جنائية الا يأمر بالقبض عليه الا إذا كانت هناك قرائن قوية يستدل منها على انه فاعل هذا الجرم ومن حق المتهم كما يقول الدكتور جلال ثروت في كتابه أصول المحاكمات الجزائية أن يقول ما يشاء دفاعاً عن نفسه ـ متى شاء وله أن يمتنع عن الكلام ـ الا بوجود محاميه كما ورد في قرار محكمة التمييز السالف الذكر ـ أو يؤجل كلامه إلى وقت آخر أو يجيب على بعض الأسئلة دون البعض الأخر ولا يجب أن يؤخذ سلوكه هذا قرينة ضده (ولكل شخص الحق في أن يلجأ إلى المحاكم الوطنية لإنصافه من أعمال فيها اعتداء على الحقوق الأساسية التي يمنحها القانون) كما جاء في المادة الثامنة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بتاريخ 10/12/1948 ولا يعرض أي إنسان للتعذيب ولا للعقوبات أو المعاملات القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة) كما نصت عليه المادة الخامسة كما ( لا يجوز القبض على أي إنسان أو حجزه أو نفيه تعسفاً) وفق نص المادة التاسعة (ولكل إنسان الحق على قدم المساواة التامة مع الآخرين في أن تنظر قضيته أمام محكمة مستقلة نزيهة نظراً عادلا علنيا للفصل في حقوقه والتزاماته وأية تهمة جنائية توجه إليه) كما جاء في المادة العاشرة.
ولا شك أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق المعاهدات الدولية والتي شارك فيها الأردن ووقع عليها والتزم بها قد أعطت ومع النصوص القانونية الأردنية ـ الحق كل الحق للإنسان الأردني ولصاحب المصلحة اللجوء إلى القضاء والتقاضي على درجات عديدة قد ضمن العدل والحقوق اللصيقة بالإنسان والمساواة الكاملة مع أقرانه من المواطنين وفي الدستور الكثير الكثير من المواد التي أولت الإنسان كل حماية ورعاية واهتمام وكفلت له الحقوق كاملة وتشير المادة الحادية عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وتؤكد على انه (1- لكل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئا إلى أن تثبت أدانته قانوناً بمحاكمة علنية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية للدفاع عنه ـ وليس كل متهم مدان ـ أو مجرم حتى تثبت براءته.2- لا يدان أي شخص من جراء أداء عمل أو الامتناع عن عمل الا إذا كان ذلك يعتبر جرما وفقا للقانون الوطني أو الدولي وقت الارتكاب ، كذلك لا توقع عليه عقوبة اشد من تلك التي كان يجوز توقيعها وقت ارتكاب الجريمة) وصراحة هذه المواد لفظاً وصياغة ومعنى تدل على التطور الذي حصل في العقود الأخيرة ومدى الالتزام الدولي بحرية الإنسان وحقوقه (فلا عقوبة الا بنص) وقاعدة (الشك يفسر لصالح المتهم) من قواعد الإثبات في المسائل الجنائية بعيداً عن التعسف والقهر والظلم والاضطهاد وهذا المبدأ (إنما ينصب على واقعة خاصة مطروحة أمام القاضي ، حيث أن الأحكام الجنائية يجب أن تبنى على اليقين والجزم، فان القاضي لا يستطيع إن تملكه الشك في نسبة الجريمة إلى المتهم ـ أن يقضي بالإدانة بل عليه أن يحكم بالبراءة تطبيقا للمبدأ السابق، لكنه لا يستطيع أن يحكم بالبراءة إذا عجز عن تفسير نص من النصوص أو تملكه الشك في صحة التأويل الذي انتهى إليه بل عليه واجب القضاء دائماً وبهذا من واجبه في هذه الحالة أن يغلب تفسيراً على تفسير وأن يقرر انه هو الرأي الصحيح المعبر عن قصد المشرع في القانون) كما يقول الدكتور الشلقاني وقد اتجهت التشريعات إلى مبدأ حرية الاقتناع القضائي الذي يخول القاضي سلطة قبول جميع الأدلة التي يقدمها أطراف الدعوى ولا يحظر عليه قبول أدلة ما وله أن يطرح أي دليل لا يطمئن إليه ولو كان اعترافا فلا تفرض عليه أدلة معينة وله بناء على ذلك القضاء بالإدانة أو البراءة حسب العقيدة التي تكونت لديه بكامل حريته، كما حظرت الاستناد إلى ما يسفر عنه من اعترافات أو أقوال كدليل في الدعوى من قبل المتهم أو غيره فضلا عن العقاب على كل ذلك بأشد العقوبات (ماده 126 عقوبات مصري) وهكذا فقد الاعتراف سيادته على الأدلة في الدعوى الجنائية وان جاز للقاضي إذا اعترف المتهم.اثر سؤاله عن الفعل المسند إليه أن يحكم عليه بغير سماع الشهود متى كان اعترافا صحيحا وصادقا ـ بعيداً عن التهديد والتخويف والإكراه ـ ومتى صح الاعتراف فانه ليس موجبا للإدانة وإنما يكون برغم صحته خاضعاً لتقدير القاضي كالشأن في جميع الأدلة، ويهدف هذا التقدير إلى التحقق من صدق الاعتراف أي مطابقته للحقيقة إذ لا يصح تجريم أو تأثيم إنسان ولو بناء على اعترافه بلسانه أو بكتابته متى كان ذلك مخالفا للحقيقة والواقع وقد يكون الاعتراف مظهرا للاضطراب النفسي أو إشباعا لغرور مرضي يسعى المتهم به للشهرة أو صادرا عن وهم تأصل بالمتهم بارتكابه الجريمة أو رغبة في إنقاذ الجاني الحقيقي بل يكون الاعتراف أحيانا وليد إكراه وخداع لم يتمكن القضاء من اكتشافه وفي المحاكم الكثير من هذه الحالات التي تحتاج إلى تقصي وبحوث ميدانية وقد جاء في قرار محكمة التمييز الأردنية الموقرة جزاء رقم 403/ 96/ لسنة1997 ما نصه (إن الاعتراف الذي يعتد به ويصبح أساسا للتجريم هو الاعتراف الصادق والصحيح والمقنع وهي مسائل موضوعية تستقل بتقديرها محكمة الموضوع وفق صلاحيتها المستمدة من حكم القانون فإذا كانت النتيجة التي خلصت إليها المحكمة هي براءة المتهمين مؤسسه على عدم قناعتها ببينة النيابة العامة وعلى ما ارتاح لها ضميرها من البينات الدفاعية معللة ذلك بما وجدته من ضعف وهنات وتناقض في بينة النيابة العامة التي بنيت على شهادة الشاهدة الرئيسية في الدعوى التي تناقضت أقوالها أمام مراجع التحقيق عند الشرطة والمدعي العام وما أدلت به من أقوال أمام المحكمة..... وعليه فيكون ما توصلت إليه المحكمة بإعلان براءة المتهمين مما اسند إليهم قد قام على أساس قانوني سليم. استقر الفقه والقضاء على أن الاعتراف ليس حجة بحد ذاته ما لم يكن صادقا وصحيحا وصدر عن إرادة حرة غير مشوب بعيب من العيوب التي تقضي استبعاده) تاريخ 26/9/1996 وهذه القرارات غيض من فيض فهناك المئات منها على هذه الشاكلة وفي هذا المضمون ... وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أن التشريع والقضاء يتوخيان دائما وأبدا أوجه العدل والحق والإنصاف وقد سبقت الشريعة الإسلامية الغراء وما توصل إليه الفقه والقضاء وأقرت مبدأ حرية الاقتناع القضائي فللقاضي أن يحكم بالإدانة أو بالبراءة حسبما تطمئن إليه نفسه ـ وفي حادثة عدم قطع يد السارقين في عام ألرماده (المجاعة) من قبل الخليفة عمر بن الخطاب الأسوة والقدوة في تكييف النص الشرعي والاجتهاد فيه وكثير ما سقطت عقوبة الحد درءا للشبهة استنادا إلى حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ادرؤوا الحدود بالشبهات كما تستلزم الشريعة أن يكون الإقرار أمام القاضي واضحا ومفصلا قاطعا في ارتكاب الجريمة مطابقا لماديات الدعوى وأدلتها وفي قول الرسول عليه الصلاة والسلام (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وقوله (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم والنائم حتى يستيقظ والمجنون حتى يفيق) ما ينير السبيل للقضاء العادل والنزيه إذ أن هذه الفئات خالية من تحمل المسؤولية ولا يكلفون بما لا يطيقون بسبب قدراتهم وأوضاعهم الخاصة والمسؤولية الجنائية والمدنية لا تكون الا للبالغين العاقلين الذين لا يحول بينهم وبين قيامهم بالمسؤوليات الواجبة أي حائل أو مانع يفقدون معه حرية الاختيار والأعمال والقدرة على التمييز بين النافع والضار وقد روى التاريخ وجاء في الصحيحين (البخاري ومسلم) وكتب الفقه أن ماعز بن مالك جاء إلى رسول الله قائلاً انه زنى فاعرض عنه الرسول فقال يا رسول الله إني زنيت فطهرني فاعرض عنه فلما شهد على نفسه أربع شهادات دعاه الرسول فقال له ابك جنون قال لا قال فهل أحصنت (أي أنت متزوجاً) قال نعم ... قال فهل أنت شارب خمر قال لا ... وأمر أن تشم رائحته ... ليتيقن الرسول من حالته وصحته العقلية وفي رواية أخرى قال له الرسول لعلك قبلت ثم لعلك ضاجعت ثم لعلك فأخذت فلما تأكد رسول الله بأنه أتى الرجل فعل الزنا بالمجامعة ومباشرته للمرأة مباشرة الأزواج يقصد الإيلاج كالمرود في المكحلة أو الرشاء في البئر فأمر الرسول برجمه حتى الموت، وقد دل جميع ما ذكر على انه يجب الاستفصال والاستفسار الواضح والتبين وانه يندب تلقين ما يسقط الحد وان الإقرار لا بد فيه من اللفظ الصريح الذي لا يحتمل غير الواقع والفعل المدان والموجب لإيقاع الحد... وقد حصل ذلك مع المرأة الغامدية التي اعترفت بالزنا فتركها الرسول حتى تضع حملها وتفطم وليدها ثم أقام عليها الحد وهناك في سجلات التاريخ الكثير الكثير من النماذج التي تؤكد أن الاعتراف والإقرار وحده لا يوجب الحد أو العقوبة... إذ ليس كل إنسان بطهارة مالك والغامدية اللذين أرادا التطهر من هذه الكبيرة (الزنا) والتي تحتاج إلى أربعة شهود من المستحيل وقوفهم ومشاهدتهم لهذا الفعل المستنكر والمستهجن ولعمر بن الخطاب قول رائع جاء فيه (والله لئن ألقى الله بتبرئة مذنب خير لي من ألقى الله بدم برىء) وماذا تفيد البراءة يا ترى بعد السجن المؤبد أو بعد الإعدام أو بعد تشويه السمعة وتلويث صاحبها وأهله ومما لا شك فيه أن ظهور مساوىء الإثبات بالأدلة القانونية الجامدة وما يؤدي إليه من إهدار الحقوق وحريات الأفراد وصدور أحكام ظالمة منتزعة بالإكراه والضرب والتعذيب ودوس الكرامة الإنسانية بوسائل يندى لها الجبين والاستناد إلى شهادات ملفقة قد أدى في مجموعه إلى انتهاج سياسة جديدة ووسائل حديثة تحمل في طياتها المصداقية والصحة ونحن في عصر العلم والمكتشفات الحديثة على كل صعيد فالفحوصات الطبية وبصمات العيون والأصابع والحمض النووي وقراءة نشاط الدماغ لكشف حالات الكذب والخداع وتسجيل دقات القلب ورصد العيون وحركات الجسم وتحليل الجينات وغيرها الكثير الكثير من الطرق والوسائل الحديثة والمبتكرة، واستخدام مختلف العلوم التي لها علاقة بالنفس البشرية والأمراض السيكوباتية ما لا يستطيع المجرم مهما أوتي من حيلة وقدرة على التهرب والإنكار الا أن يخضع لها ففيها الأدلة والإثباتات والحجج الدامغه، وتتفوق في نتائجها وآثارها ومعطياتها على ما درجنا عليه في سنوات وقرون خلت . (يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وجلودهم بما كانوا يصنعون).
ففي أواخر العام الماضي سمح قاض في الينوي في الولايات المتحدة الأمريكية باعتماد صور الرنين المغناطيسي الوظيفي كدليل في المحكمة تتعلق بجريمة قتل واعتبرت نقطة تحول في القضاء إذ فتحت الأبواب لاستخدام جميع أشكال الرنين المغناطيسي الوظيفي وغيره من الابتكارات الحديثة لاكتشاف الخلل والمرض العقلي أو النفسي ومدى تأثر الإنسان بما يتناول من طعام أو شراب أو مخدرات وعقاقير خطره أو منبهات لها التأثير على كيانه العصبي والدورة الدموية في جسده، والأمراض النفس جسمية التي تكتشف كل يوم وهي المرجل الذي تغلي فيه نفسية المجرم وجسده. ولا شك أن لغدده وجيناته فعل السحر على سلوكه ونزوعه خيرا كان أم شريرا مستقيما أم مجرما. والإنسان كما يقال نتاج طبيعي لتربيته ولبيئته ولغدده ولغذائه وما يضطرب في أحشائه وتكوينه النفسي والجسدي وتاريخه المرضي ينبىء هل هو من أهل الضلال أو من أهل الصلاح، ويجب أن يؤخذ كل ذلك في التشريع والقضاء بعين الاعتبار مجاراة لسنة التطور ومتطلبات العصر.
الخلاصة.
أن لا تؤخذ عبارة الاعتراف سيد الأدلة على علاتها وكأنها تحمل من القداسة ما لا يجوز معه الرفض والنقض والنقد.فالاعتراف وحده لا يكفي ولا يعتد به منفصلا عن غيره من البينات.
أن الاعتراف يحتاج إلى استخدام وسائل حديثة أثبتها العلم والاكتشافات والتقنيات التي تنفي أو تؤكد ارتكاب الجرم أو الفعل المدان,
إن الإكراه والضغط والإجبار والتعذيب للحصول على الاعتراف ينفي الاعتراف وأو الإقرار جملة وتفصيلا ولا يعتد به .
إن التناقض في البينات المقدمة والظروف والملابسات التي تحيط بالقضية تؤكد على أن الشك يفسر لصالح المتهم.
أن المتهم برىء حتى تثبت إدانته وليس مجرما حتى تثبت براءته وتبرئة متهم بمعطيات البراءة خير من إدانة برىء.
إن حقوق الإنسان والتي كفلتها الشرائع السماوية والدستورية والقوانين الوضعية والإعلانات العالمية جاءت في الحقيقة لتؤكد على حرية الإنسان وإنسانيته وكرامته مصداقاً لقوله تعالى في الآية 70 من سورة الإسراء (ولقد كرمنا بني ادم وحملناهم في البر والبحر وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)
إن الإنسان نتاج طبيعي لبيئتة ومجتمعه ولتكوينه الجسدي والنفسي والعقلي وللوراثة والتغذية والأمراض دور كبير على مكوناته وربما تكون حالته هي المرجل التي تغلي فيه انحرافاته وموبقاته وجرائمه (وكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) كما ورد عن الرسول الكريم. (والتائب من الذنب كما لا ذنب له) ولقوله عليه السلام (والله ان لم تذنبوا لذهب الله بكم وأتى بأناس يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد وبهذه المعاني السامية يصل القضاء إلى الذرى ونضمن القضاء العادل والنزيه.
الاعتراف سيّد الأدلة... هل هي قاعدة صحيحة أم معتلّة؟
12:00 22-4-2010
آخر تعديل :
الخميس