د. منصور عمر المعايطة - لقد قطع التقدم العلمي والتقني خطوات هائلة في شتى المجالات وكان من الطبيعي أن ينشأ تعاون بين علوم مختلفة ومتعددة متنوعة،و لهذا بدأت تظهر أمام القضاء مسائل ذات طبيعة مركبة ومعقدة لا يمكن حلها بالاعتماد على قواعد الشريعة والقانون فقط على الرغم من معرفة القاضي الواسعة في علوم القانون و درايته الكافية في مبادئ العدل والإنصاف والحكمة والتروي بهدف الوصول إلى الحقيقة ،بل أضحى الأمر يحتاج إلى مساعدة أهل العلم والاختصاص في علوم ومعارف فنية أخرى من اجل الوقوف على الحقيقة بغية التطبيق السليم لقواعد القانون. لذلك اهتمت الدول بمساعدي القضاء ومنهم الخبراء الاختصاصيون فبادرت إلى وضع التشريعات واللوائح التي تعنى بكل هذا ولا سيما تنظيم الخبرة باعتبارها أصبحت جزءا» متمما لحسن سير العدالة حيث بينت الحالات التي يجوز فيها للقاضي اللجوء إلى الخبرة الفنية وكيف يتم الاستعانة بالخبراء، لذلك تأتي هذه الدراسة لتوضح مفهوم الخبرة الفنية ومتى يمكن اللجوء إليها في القضاء لما لهذه الوسيلة من أهمية كبرى في إنارة وتوضيح الموضوع من النواحي المتصلة بفن من الفنون أو علم من العلوم مما لا يتاح للقاضي معرفته والوقوف على دقائقه دون الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص.
مفهوم الخبرة وطبيعتها : يرى أكثرية الفقهاء بالإضافة إلى التشريع الوضعي إن الخبرة هي إحدى طرق الإثبات التي يمكن أن يلجا إليها الأطراف في الدعوى كما أن للقاضي أن يلجا إليها من تلقاء نفسه كلما دعت الحاجة إلى للتثبت من مسائل فنية اختصاصية. كما يمكن أن تعرف الخبرة الفنية القضائية بمعناها القانون بأنها تدبير تحقيقي يهدف إلى الحصول على معلومات ضرورية بواسطة أصحاب الخبرة أو الاختصاص من اجل البت في مسائل فنية ذات طبيعة محددة تكون محل نزاع ولا تلجا المحكمة إليها إلا عند عدم إدراكها للمسالة المعروضة بنفسها أو عندما تكون الأدلة المعروضة في الدعوى غير كافية لتوضيحها وهي تقتصر على المسائل الفنية دون المسائل القانونية التي تبقى حصرا من اختصاص القاضي. والخبرة بهذا المعنى تتميز عن الشهادة من حيث أن مهمة الشاهد الأساسية تنحصر في الإدلاء بأقوال بشام ماراه أو أدركه بوجه عام دون أن يكون له القيام بتقدير شيء ما ، أما في حالة الخبرة فيتطلب من الخبير إبداء رأيه بشان تقدير مسالة من طبيعة خاصة مما يتطلب إدراكا لتلك الواقعة يتم أما بالملاحظة المجردة أو يتطلب أبحاثا فنية حسب طبيعة المهمة ثم استنتاجا لما أدركه مطبقا في ذلك معلوماته العلمية والفنية إلى السلطة التي انتدبته ، وترتيبا على تلك التفرقة يجوز في مجال الخبرة استبدال الخبير بغيره من الخبراء أما الشاهد فلا نتصور استبداله لان دوره في الدعوى قاصر عليه وحده. ولهذا قيل إن الخبرة وسيلة إثبات مستقلة النوع تنقل إلى حيز الدعوى الجنائية دليلا يتعلق بإثبات الجريمة أو إسنادها المادي إلى المتهم.
متى يلجا القاضي إلى الخبرة : توجد مذاهب متعددة في تحديد مدى صلاحية القضاء في اللجوء إلى الخبرة الفنية في القضايا المقامة أمامه بشان الخصومات حيث إن الأنظمة تعطي القاضي سلطة مطلقة في تحرى الوقائع المعروضة علية فهو يستطيع بموجب تلك السلطة أن يتحرى الحقيقة بكل الوسائل ومنها الخبرة الفنية ، هذا وتوجد أنظمة تقيد سلطة القاضي في التحري عن الحقيقة حيث حددت وحصرت وسائل الإثبات وعينتها ومنعت الأطراف في الدعوى من إثبات حقوقهم بغير تلك الوسائل كما الزم تلك الأنظمة القاضي أن يقف موقف الحياد في الدعوى من حيث المبدأ ومنعته من الحكم بعلمه الشخصي أي إن سلطة القاضي محصورة في نطاق تطبيق نصوص القانون دون التمتع بأي سلطة تقديرية ، كما توجد أنظمة تمزج بين حرية الإثبات والإثبات المقيد حيث يكون الإثبات حرا في المسائل الجنائية ويكون مقيدا في المسائل المدنية والتجارية فالقاضي يملك سلطة تقديرية في تسيير الدعوى وتقدير الأدلة على الرغم من مبدأ حياد القاضي وحصر الأدلة وترتيبها دون أن يسمح للخصوم بتقديم أدلة لم ينص عليها القانون وتظهر السلطة التقديرية للقاضي وفق هذه الأنظمة بشكل خاص في الحرية المعطاة بتكوين قناعته من أقوال الشهود وفي إجراء خبرة فنية في المسائل التي تستلزم معرفة فنية اختصاصية وتبدو سلطة القاضي في هذا المجال واسعة لا يحد منها سوى أن لا تتعارض مع النظام العام ومع الحقوق الملازمة لشخصية الإنسان. فلا يجوز على سبيل المثال إجراء خبرة لتحليل دم إنسان إلا بالرضا الصريح والواضح ما لم يتعلق الأمر بتحقيق جنائي في الكشف على الجرائم ومعرفة المجرمين. وتأخذ أكثر دول العالم بهذا النظام بما فيها الدول العربية وان كانت تتفاوت درجة السلطة التقديرية الممنوحة للقاضي بحسب المواد التي تستند إليها فهي تكاد أن تكون مطلقة في المواد الجزائية وفي حدها الأدنى في المواد المدنية. وقد اخذ المشرع الأردني في قانون أصول المحاكمات الجزائية بمبدأ الخبرة في القضايا الجزائية حيث أشارت المادة (39) إلى ذلك من خلال نصها القائل : إذا توقف تميز ماهية الجرم وأحواله على معرفة بعض الفنون والصنائع فعلى المدعى العام أن يستصحب واحدا أو أكثر من أرباب الفن والصنعة. كما اعتبر قانون البينات الأردني رقم ( 37) لسنة 2001 في المادة الثانية منه أن المعاينة والخبرة تعتبر إحدى وسائل الإثبات واعتبرها من البينات. ( تقسم البينات إلى : الأدلة الكتابية والشهادة والقرائن والإقرار واليمين والمعاينة والخبرة ) وبالإضافة إلى ذلك فقد نظم القانون رقم 78لسنة 2001 نظام الخبرة أمام المحاكم النظامية والذي بموجبة تم انشأ مديرية في وزارة العدل تسمي ( مديرية شؤون الخبرة ).
حجية الخبرة الفنية : يقضي المبدأ القانوني أن رأي الخبير لا يقيد المحكمة ويذهب رأي إلى القول أن المحكمة ليست ملزمة برأي الخبير ولها مطلق التقدير في ذلك بل لها أن تأخذ برأي مخالف تماما لرأيه إذا تبين لها وجاهة ذلك الرأي أو إن استنتاجات الخبير غير مطابقة للواقع. كما إن المحكمة غير ملزمة ببيان الأسباب التي دعتها إلى عدم الأخذ به ويكفي أن تشير في أسباب حكمها أنها لن تأخذ به لتعارضه مع حقيقة ما وصلت إليها. وفي الأمور الجزائية يقضي المبدأ ذاته أن القاضي الجزائي غير مقيد بنتائج الخبرة إلا انه عليه أن يشير في حكمه إلى انه استبعدها ويبين الأسباب التي دعته لاستبعادها.
وفي النهاية نجد أن الخبرة الفنية أصبحت تحتل مكانا مهما في العمل القضائي باعتبارها طريقا مهما من طرق الإثبات في المنازعات التي تنظر أمام القضاء وان لها أهمية كبرى في الإثبات لا سيما في مواجهة التطور التقني في شتى المجالات لان المسالة تستلزم معارف فنية اختصاصية لا يدركها إلا أهل الفن والاختصاص و لأجل هذا وجدت الخبرة الفنية لتكون وسيلة أو طريقا من طرق الإثبات ولتكون وسيلة مساعدة للقضاء في إنارة الطريق للوصول إلى الحقيقة لهذا يمكن القول أن الخبرة الفنية في العالم المعاصر أصبحت من مستلزمات الفصل في كثير من القضايا المقامة أمام القضاء. ولأهمية ذلك يتوجب على المعنيين الاهتمام بمؤسسة الخبرة الفنية كنظام قانوني يعمل جنبا إلى جنب مع مؤسسة العدالة في البحث عن الحقيقة بحياد وموضوعية ونزاهة دون تأخير وعليه فانه يجب ايلاء موضوع الخبرة الفنية اهتماما خاصا من خلال إقامة توعية خاصة حول مفهوم الخبرة الفنية وما يتعلق فيها بالنسبة للقضاة وما يتعلق بالخبراء وكذلك يجب التدقيق والاهتمام في اختيار الخبراء وذلك من خلال إيجاد الطرق للوصول إلى الخبير صاحب الخبرة والمعرفة والاستقامة والأمانة لان إحالة موضوع الدعوى إلى الخبرة يعني ضمنا إحالة الحكم إلى الخبير فيجب الاهتمام بشروط تعيين الخبراء وان تكون الشروط قريبة جدال من شروط تعيين القضاة.
* استشاري طب شرعي
mansourmaaita@yahoo.com
تنبيه: يحظر النقل أو إعادة النشر بأي وسيلة إلا بعد الحصول على الموافقة المسبقة على ذلك من صحيفة الرأي