أحمد إبراهيم العتوم - الفن هو تلك الظاهرة المتعينة، التي يمكن من خلال التحليل الفلسفي النقدي، أن تُمتحن فيها حقيقة التعبيرات الفنية وتتكشّف فيها مكانة البعاد الثقافي. ويبدو أن ميدان الجماليات، في المجتمع الرأسمالي، بحاجة إلى مثل هذا التحليل النقدي، كي ما تتبين سياسات الهيمنة التي تقبع خلف طابع الحداثة الرأسمالية، التي تحاول باستمرار تغييب الجانب الأيديولوجي الضيق الذي يخدم مصالح الطبقة المسيطرة سواء بوجهها الرسمي أو غير الرسمي البرجوازي. وكثيراً ما تحولت الكرامة الشخصية في هذا الإطار إلى قيمة تبادل إذا ما عددنا أن المجتمع الحديث يحدده العامل الاقتصادي. والاقتصاد الحديث أو العصري هو اقتصاد نهم لا يشبع أبداً، ودائم التوسع في الاستهلاك.
للفن خصوصية ومكانة مستقلة ومقدرة خاصة، عن مجرد تقليصه إلى انعكاس بسيط للواقع الاجتماعي. لقد رسمت المدرسة الفرانكفورتية الخطوط العريضة للفن الجمالي المتسامي التي تلجأ إلى مجانية الفن للفن أو إلى الجماليات التعبيرية.
يقول ثيودور أدورنو (1903-1969) الذي أعطى اهتماماً كبيراً لجدلية العقل عبر نظرته الجمالية للفن: لقد كان الفن دائماً وسيبقى قوة للاحتجاج الإنساني ضد قمع المؤسسات التي تمثل الهيمنة الاستبدادية والدينية وغيرها، مع عكسه، بطبيعة الحال، لفحواها الموضوعي .
إن التحليل الفلسفي-النقدي المطروح، يكشف عن فقدان قيمة الأثر الفني كموضوع ثقافي لصالح قيمته كواقع قابل للعرض . إلا أن القيمة الأخيرة هذه لا يمكنها أن تشكّل الكلمة الأخيرة.
سبق ل هيغل أن حكم على الفن بالموت، بعكس ما توقعه أدورنو. هيغل هو هذا الفيلسوف الذي عظّم دور الفن الجمالي (الإستطيقي) الروحي للإنسان، وقدّمه على كل إنتاج جمالي للطبيعة. وها هي آراء أدورنو الفلسفية تصطدم بالرأسمالية المفرطة بمنجزاتها المادية -الاستهلاكية، وبالتالي أثّر ذلك في تراجع قيمة الفن الذي أصبح استهلاكياً هو الآخر ومتخطياً منظومة الفن التقليدي؛ ففي بدايات القرن العشرين أخذ الفن يتآلف مع مقتضيات وأهداف السيطرة الاقتصادية على مختلف مناحي الحياة الإنسانية. بهذا المعنى اكتسب الفن مزيداً من الحرية لعمله. ولعل أدورنو قد وجد في تمرد الرأسمالية ما يسمح بوضع الفن في خدمة أهدافها ومستلزماتها الاستهلاكية من دعاية وإعلان وترويج.
لم يعد أيٌّ من الفن والأدب محتفظاً بمكانته المرموقة التي كانت له في القرن التاسع عشر، بل وقَعا كلاهما في الزيف بعد أن هيمنت الحداثة التكنولوجية والاتصالات على مجمل الحياة الإنسانية.
هل أصبح الفن سوقياً منخرطاً في المنظومة السلعية؟ لا تبدو الحداثة الفنية بنظر أدورنو مجرد ارتباط الفن بالتقدم التكنولوجي والصناعي، وإن ما يدعوه أدورنو ب صناعة الثقافة لا يعكس حاجات البشر الفعلية الحقيقية، بل إن هذه الصناعة أثّرت في أذواق الجماهير التي انخرطت في النهج الأيديولوجي ورضخت لثقافة تصنعها أجهزة التسلط والهيمنة؛ فثقافة كهذه تشكّل البيئة التي تحول الفن إلى سلعة استهلاكية. وبهذا المعنى تصبح القيمة الاستهلاكية هي القيمة المعيارية للتفاعل الحضاري والاقتناء . للمرء أن يلاحظ -مثلاً- الصور واللوحات الثمينة وغيرها في سوق المزاد السلعي في المجتمعات الاستهلاكية- البرجوازية.
يذكر الفيلسوف هابرماس في الخطاب الفلسفي للحداثة ، أن الفيلسوفين الألمانيين هوركهايمر وأدورنو، يؤكدان أن نيتشه كان من الفلاسفة المعدودين بعد هيغل الذين قدّروا جدلية العقل أو الأنوار. ويرى هابرماس أن جدلية العقل مدينة لنيتشه. هذا من جانب، وهما أيضاً يستوحيان من نيتشه عندما يستقطبان معايير نقدهما للثقافة من تجربة أساسية خاصة بالحداثة الجمالية والمعزولة عن سياقها من جانب آخر. إن مسألة العزل عن السياق هو ما يجعلها تفقد مزاياها وقيمتها الفنية الحقيقية الخلاقة، لتتردى وتنخرط في القيم السوقية -الاستهلاكية.
بهذا المعنى، تردى دور الفنان الذي باتت تحكمه سياسة المحاكاة السلعية والاستهلاكية. بمعنى آخر، فقد تحول الفن إلى مهنة حرفية ليس إلا. وفقدَ الفن الوضعية التي اكتسب بها تميزه وقدسية ذوقه واستقلاله. ولم يعد ذلك الفن الحالم والراقي الذي يترك بصماته وأثره في الواقع، وينهض إلى مستويات أرقى من التفكير الإنساني والحضاري.
وهذا ما عارضه والتر بنيامين ، عندما عدّ الحالة التي يمر بها الفن المعاصر حالةَ تحوّل اقتضاها التطور ليتشكّل ك حدث اجتماعي يمارس نوعاً من النقد والديمقراطية ، شأن ذلك شأن أفلام السينما التي تمارس النقد والديمقراطية على نطاق جماهيري واسع . لكن أدورنو يبقى محقاً في نظرته تجاه الفن الذي سقط في معمعة القيم الاستهلاكية السطحية بعد أن خرج عن تأملاته في العمق. وهذا ما جعل العمل الفني -الثقافي منفصلاً عن سياقه الأصلي ومغترباً عن واقعه. بهذا الاتجاه سعى أدورنو إلى محاولة تخليص الحداثة من إشكالية ذات علائق أسطورية مشتبكة بالواقع، ومتشكّلة من مجرد الربط بين الحداثة والتقدم التكنولوجي وحسب.
لكن الصورة المتأزمة للواقع في تلك المرحلة من الزمن، جعلت العقل يصبح الأداة الموضوعية للطبقة المسيطرة على مختلف أشكال الواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي؛ فقد وضع أدورنو بالاشتراك مع هوركهايمر كتاباً تحت عنوان جدل العقل ، وقد أظهر الكتاب عمقاً في تحليل ونقد واقع العقل المتهم بالقصور.
فقد التفت أدورنو إلى كثافة الإنتاج الفني في البلدان المتقدمة تكنولوجياً ومن ثم استهلاكياً، كما في أميركا وأوروبا. وهذا ما أدى إلى تطور مفهوم النقد : فمن نقد العقل إلى نقد المنظور الجمالي السائد (كالموسيقى والرسم والنحت والشعر). لقد انكشف في الحداثة ، ذلك التقدم التكنولوجي الكبير قبالة التراجع في أصالة الفن، فأمسى التناسب عكسياً بينهما. وقد أدى كل ذلك إلى تسيُّد الوعي التكنوقراطي الذي صنع من العقل أداة تخفي تناقضاته وإشكاليات استلابه.
وصف أدورنو العلاقة بين الإنتاج الفني ووسائل الاستهلاك الجماهيرية ودورها في الدعاية إلى جانب الدور السياسي والاقتصادي ب: الثقافة المصنعة ، وهي الثقافة التي باتت تكشف بوضوح -عند بعض النخب الفكرية- عن ذلك الواقع المغترب والمروّض داخل الثقافة الشعبية العامة وفي كنف الاستهلاك الجماهيري، الأمر الذي غيّب الطابع المهيمن للدولة ومؤسساتها. وقد كشف التحليل النقدي في كتاب آخر ل أدورنو، هو الجدل السلبي ، أن العقل ينتقد ذاته، وهو نفسه يستلب الواقع، عبر ثنائية في التفكير، حيث يكون الفكر نقضاً وسلباً لنفسه لتجنب مأزق الوقوع في شبكة الاستلاب التي يحبكها تيار الواقع ، كما يذكر علاء طاهر.
فهذا الديالكتيك السلبي يتعامل مع الأشياء في العمق، بحيث يُستبعد كل تفكير أنطولوجي انقلب إلى فكر أيديولوجي داخل الهيمنة السائدة للعقلانية، ممارساً بذلك أهدافه الفعلية التي تتمثل ابتداءً بالمحافظة على استقلاله الذاتي .
وفي كتاب آخر بعنوان النظرية الجمالية ، يبيّن أدورنو منهجية أفصحت عن منظور خاص للحداثة الفنية مغايرة للفعل الفني الممزق لمجتمع ممزق، وقع تحت سطوة مرحلة متقدمة من التصنيع توضع في تخدم الطبقة المسيطرة، في الوسط الرأسمالي، حيث يكون الفن سلعة منتَجة محكومة بنمط إنتاج معين.
فلهذه المرحلة نمط من العقلانية الآلية مختلف عن ذلك التعبير الفني والجمالي المتميز بإرادة يطلق عليها أدورنو: قوة المقاومة الفنية ، في مواجهة استلاب الوعي وقمعه، والسقوط في وحْل المؤثرات الاغترابية. فالتعبير الفني المطلوب لدى أدورنو هو ذلك التعبير المتفوق والمتسامي على التكنولوجيا في أعمق حالاتها هيمنة وتقدماً.