البتراء .. اسطورة انتصار الانسان على الجبل

البتراء .. اسطورة انتصار الانسان على الجبل

نعم ... لقد انتصر الإنسان على الجبل في أروع أسطورة لصراع الإنسان مع الطبيعة.

كانت الطبيعة أول ما واجهه الإنسان وتفاعل معه بعد أن خلقه الله سبحانه وتعالى... فقد وجد الانسان نفسه أمام كم هائل من التحديات والمواجهات التي لم يكن قد خاضها بعد ...

ومن هنا بدأ الصراع الأسطوري .. صراع من أجل البقاء، ولم يكن هذا الصراع اختياريا للإنسان بل فرض عليه لكي يحيا إنطلاقا من غريزة حب البقاء.

ولكن لكي يبقى فلا بد من مأوى .. مأوى يحميه من قسوة الطبيعة ووحوشها الكاسرة ... هكذا كان أهم مطلب للعيش والاستمرار في الحياة هو المأوى.

من هنا جاءت «البتراء»

ولدت لتحمل رسالة سرمدية لبني البشر ... إنها صرخة الإنسان المدوية ... إنها صوت الإرادة النافذة.

ها هي البتراء اليوم تحاكي الزمن بكل لغات الأرض مرتدية أجمل حلة في زخرف وردي تداعب النسمات بأجمل ابتسامات تغني وترقص لها الطيور والعصافير في كل صباح فهي قصيدة شعر كتبت بقوافي الجبال، ولوحة رسمت على جبين الجبال ... فما أجملك يا عرس الجبال.

سنسلط الأضواء على هذه المدينة الوردية الجميلة وننفض عنها غبار الزمن لنتعرف على أبرز سمات هذا المتحف الأثري من الطبيعة الخلابة.

جاءت تسمية البتراء من البتر وهو القطع لأنها بنيت على قطع وحفر في الجبال والصخور القوية، وفي هذا المعنى أيضا ذكر المؤرخ النبطي (سترابون).. أن البتراء سميت بهذا الاسم لأن الصخور تحيط بها من كل جانب. وكانت تعرف عند العرب القدماء بوادي موسى، وهي لم تكن مأهولة في عصر الفتوحات الإسلامية.

كما أنها تعتبر مدينة أثرية متكاملة ففيها الشوارع، المعابد، المساكن، القبور... هذا بالإضافة إلى شبكة متكاملة لتصريف مياه الأمطار وخزنها كما فيها أيضا شبكة متكاملة لمياه الشرب وهذا مؤشر على العبقرية القديمة عند العرب.

البتراء كما سميت بناها العرب الأنباط في سالف الزمان وهم قوم ثمود حيث ورد ذكرهم في القرآن المجيد (وثمود الذين جابوا الصخر بالواد) صدق الله العظيم.

تقع مدينة البتراء الأثرية على بعد (262) كم إلى جنوب مدينة عمان، وقد كانت مركزا حضاريا مهما جدا منذ (7000) سنة قبل الميلاد، وأول من سكنها من الناحية العمرانية هم العرب الأنباط، وقد أبدعوا كثيرا في فنون النقش على الحجارة حتى جعلوها أعجوبة الماضي والحاضر مما حدا بهم أن يجعلوها بحق عاصمة لهم حيث أصبحت في وقتها مركزا تجاريا حضاريا تحميه وتحتضنه سلسلة من الجبال.

اكتشفت في عصرنا الحديث بالشكل الذي جعلها على أهميتها الحالية للعالم العربي والغربي على يد الرحالة السويسري (جون بير كهارت) عام 1812م، وقد جاء هذا الاكتشاف متأخرا نوعا ما بسبب طبيعتها الصعبة وكونها محاطة بالجبال من كل الاتجاهات يتم الدخول إليها من خلال ممرات ضيقة جدا ضمن الوديان في سلسلة من الجبال الشاهقة.

هناك ممر رئيسي مؤدي لها يدعى (السيق) وهو ضيق جدا يبلغ طوله (2,1) كم وعرضه من (3-6)م وارتفاع القمم الجبلية ضمن هذا الممر من (60-80)م. عندما تدخل هذا الممر يراودك شعور كأنك تتوغل في عمق الزمن فتارة يدفعك شمالا وتارة يمينا، وفي بعض مناطقه يضيق لدرجة أنك تستطيع أن تلامس الصخر عندما تفتح ذراعيك. وبعد كل هذا عندما يرسم هذا الممر الرهيب نهايته تصاب بالذهول حيث تجد نفسك أمام العجب العجاب.

هناك آثار نفق نستطيع مشاهدتها وهي محفورة في الصخر عند مدخل هذا الشق ،،، يعتقد أن سكان هذه المدينة كانوا يستخدمونها في مواسم الفيضان بشكل لا يؤثر أو يدمر الطريق.

كما أنك تشاهد قناطر الماء التي كانت تستخدم لمياه الشرب وفي بدايتها مدخل فيه زخرفة على شكل (قوس النصر) يحتوي على صور ونقوش عديدة تسر الناظر إليها.

لقد ادعى بعض المستشرقين ... أن هذا الممر الذي يدعى (السيق) كان محروسا من قبل رجال طوال القامة يشبهون في أشكالهم الخارجية الطيور الجارحة.

بعد كل هذا وأنت تتوغل في عمق الزمن يرسم هذا الممر العجيب نهايته لتجد نفسك مذهولا وبحاجة إلى من تتكأ عليه من هول الصدمة لأنك أصبحت أمام أعجوبة الماضي والحاضر ... إنه المعبد الوردي المسى (بالخزنة) وهي الأعجوبة الوردية التي حفرت في الصخر بشكل متقن ودقيق وبطريقة تثير الكثير من التساؤلات حول درجة المستوى العلمي والعمراني السائد في ذلك الوقت ... بحيث أنك تفكر أن هذا الجبل لم يكن صخرا بل كان من الطين لصعوبة الحفر والنقش عليه بالطريقة التي ظهر عليها هذا الجبل.

إن الحجر الذي تتكون منه هذه الجبال هو الحجر الأحمر الرملي يحتوي على لمعان موجة حمراء ممزوجة ومتداخلة مع موجة زرقاء وبعضها القليل أبيض.

سبحان الله ... سبحان الخالق المصور الذي أبدع في خلقه كما أبدع في هذا الصخر ... فنعم البديع المبدع.

كما احتوت الخزنة في طابقها العلوي على تماثيل مجسمة لتسع فتيات وضعت بشكل بارز بحيث تضيف رونقا وجمالا لهذا الحجر الذي يكاد أن ينطق روعة وبهاء. ويفسر بعض المؤخين بناء المعبد على أنه جاء بعد موت الإله (إله الشمس) وتروي القصة أن هذا الإله قد قتل من قبل شيطان الظلام مما جعل زوجته الإلهة (إيزيس) تحزن عليه طيلة حياتها ولأجله شيد هذا المعبد.

بالإضافة إلى ما ذكر احتوت البتراء على مساكن كثيرة وقبور وصلت إلى الحدود المتاخمة لوادي موسى، وقد حفرت هذه المساكن والقبور في الجبال بتنسيق رائع كما يوجد أيضا المذبح الذي تذبح فيه الحيوانات كقربان للألهة بحيث كان يسيل دمها في قناة محفورة في جبل قريب من المذبح وبعدها تتجه هذه الدماء إلى حوض كبير محفور في الصخر أيضا.

إن البتراء اليوم، وبعد مضي حقبة طويلة من الزمن بقيت شامخة تتربع على قمم التاريخ تحكي وتروي لنا قصة إنسان صارع الطبيعة ليترك بصماته مزهوة على صخورها وجبالها ... إنها رسالة السلف إلى الخلف فما أروعها من رسالة ... إنها الأمانة التي صانتها الطبيعة وحافظت عليها لكي توصلها إلى بني البشر فما أروعها من أمانة.

هذه هي البتراء ... الأسطورة السرمدية .... أسطورة انتصار الإنسان على الجبل .... إنها تستحق بحق أن تكون أعجوبة العالم لتضاف إلى عجائب الدنيا السبع ... تضاف بكل جدارة لكي يعطيها العالم المكانة التي تستحقها، وتتربع عليها.

إن الأمانة التأريخية تحتم على أمناء التاريخ أن يعطوا لهذه المدينة حقها في أن تكون أعجوبة من عجائب العالم، وهذا جزء من الوفاء للتاريخ وجزء من الوفاء للحضارة الإنسانية ...

فها هي صرخة التاريخ نسمعها تناجي ذوي الألباب.