ناجح حسن - حظي الفيلم الفرنسي المسمى (رسول) للمخرج جاك أوديار بالكثير من عبارات الإطراء والإعجاب من مشاهدي العمل في مهرجان دبي السينمائي الدولي، وهو الحائز على جائزة لجنة تحكيم مهرجان (كان) السينمائي الدولي العام الفائت، بعد أن نافس بقوة على جائزة السعفة الذهبية كبرى جوائز المهرجان.
شكل حضور الفيلم بمثابة الاكتشاف لعشاق الفن السابع في أكثر من منحى سواء في بنائه الدرامي أو في لقيات معالجته الفنية، ويحسب لمؤدي أداء الأدوار الرئيسية براعتهم في تقمص شخصيات تعصف بها حياة السجن وما تحفل به من تحولات جذرية في أجواء عصيبة .
تتباين معالجة ادويار في فيلم (رسول) عن معالجة أقرانه من المخرجين العالميين - تحديدا أولئك من هم في السينما الاميركية - على نحو يفضي إلى تلك الأسلوبية البليغة التي تهتم بالتفاصيل التي تختزنها أمكنة التصوير في مكان أشبه بالثابت والمحدود، بعيدا عن ذلك التشويق المجاني أو الصدف غير المقنعة، التي اعتاد عليها عشاق أفلام السجون وهي تبرز أجواء من الصخب والعنف غير المحدود .
يمتلك أوديار - المولود في فرنسا العام 1952 وهو صاحب أربعة أفلام قبل هذا الفيلم هي: (أنظر كيف يسقطون) 1994، (البطل الذاتي) 1996، (اقرأ شفاهي) 2001، و(الضربة التي تجاوزها القلب) 2005 - رؤية ثاقبة لعالم السجون المتخم بسائر الأنماط البشرية وجدلهم وقضاياهم وتطلعاتهم ورغباتهم، وصولا إلى قراءة أحوال من يهيمن عليهم من رجالات الشرطة، وتصوير اندفاعهم المحموم في فض النزاعات بين المساجين، أو في قدرة المخرج على اقتحام عوالم الفساد داخل السجن.
يستهل الفيلم أحداثه بتصوير تلك الطقوس المتبعة للحظة دخول شاب إلى السجن ومنذ البداية يشعر المشاهد انه أمام سجين يدخل السجن لأول مرة وواضح من اسمه وسحنته انه من جذور عربية.
قبل أن يستقر السجين داخل زنزانته يوفق المخرج بأسلوبية تقترب من التسجيلية في إيصال الكثير مما يمر به السجين الشاب من إجراءات أمنية متبعة يشعر فيها المتلقي بدراية ومهنية المخرج اوديار المحملة بلحظات من التفكير والتشويق الفني المدروس الذي يحيد فيهما عن الإثارة والمبالغة .
في الأيام التالية من وجود الشاب داخل السجن، يلقى أشكال من التعصب والمعاناة من قبل تجمعات من السجناء على غرار تلك المجموعة الكورسيكية التي تسلك طريق العصابات العنيفة، وتتخذ من السجن مكانا لها في إدارة عملياتها التي تتم خارج السجن، حيث يصبح الشاب هدفا لها، ويجري استغلاله في القيام بعملية قتل لسجين واضح انه عربي الأصل بعد أن تردد للوهلة الأولى وخضع إلى ضغوط شديدة أحس فيها بالأحكام والقواعد التي تحكم عمل إيقاع هذا السجن، فانه يوافق على المهمة وينجح في قتل الهدف بصورة بشعة.
عقب ذلك تبدأ أسهم السجين الشاب في الارتفاع لدى زعيم العصابة المكونة من الكورسيكيين الذي وجهه إلى القتل، وأصبح له شان وقيمة ونفوذ بعد أن كان يؤدي مهام بسيطة ووضيعة قبل أن تنجح العصابة في الوثوق به وتكليفه بعمليات في تجارة المخدرات، وما شابهها من عمليات غير قانونية خارج السجن يقوم بها إبان إجازته التي يمضيها خارج السجن، نجحت عصابة الكورسيكيين في إتاحتها له بذريعة حسن سلوكه، والحقيقة إنها نتيجة لتعاون بين أفراد العصابة مع إدارة السجن الفاسدة.
يركز الفيلم على جذور بطله الشاب العربي مقارنة مع أقرانه من المساجين الآخرين، ويحيطه بهالة من الجاذبية والرومانسية الطافحة في مواقف ليست هي كذلك تماما .
يبدع اوديار في رسم الفوارق بين الشاب وباقي المساجين، رغم وجود البعض منهم ينحدرون من ثقافته ذاتها، لكنه يظهر بشكل دائم في عزلة كأنه في لحظات حساب مع الذات، وينأى عن أجوائهم المليئة بعناصر التجاذب والاستقطاب والاحتراز والتخطيط والخوف من الآخر، الأمر الذي يتيح أمامه فرصة الانفلات من هذا الجحيم، ليس هذا وحسب بل والتخطيط والعمل على الثأر ممن ورطه في الانخراط بعوالم الجريمة المنظمة .
ويلعب الفيلم على دفة المشاعر الإنسانية للشاب السجين، من خلال ارتباطه بعلاقة صداقة مع سجين عربي الأصل الذي يخرج إلى الحرية ليموت بالسرطان، حيث يأخذ الشاب على عاتقه الاعتناء بزوجة صديقه وطفلها، من هنا يفجر الفيلم خطابه الجمالي والفكري الجريئين في انحيازه إلى جانب بطله الذي يمضي قدما في الجريمة كواحد من رجال العصابات الجدد بعد أن يكسر هالة عصابة الكورسكيين .
قدم اوديار بهذا الفيلم أشكالا من المفردات السينمائية المبتكرة، التي تجسد رؤية صانع الفيلم في واقع الجريمة في المجتمع الفرنسي، وأحاط بطله العربي الجذور في الكثير من المواقف التي تجسد حاجاته ومعاناته عبر تركيزه على تفاصيل تدعو إلى التأمل والتفكير مليا بهاجس المستقبل، والبحث عن فرص حقيقية في مجتمع أوروبي تتباين فيه ثقافات أفراده وتتنوع فيه الهوية .
أجاد اوديار توظيف موسيقى العمل المستمدة من أصول شرقية في تمازج فريد مع أجواء الفيلم البوليسي المعهود من مغامرات ولحظات التشويق ومشاهد الحراك بين السجناء، بيد انه هنا أحسن استخدام الكثير من الإشارات والدلالات العميقة بعيدا عن طرحها في شكل مباشر وهي تؤشر على فساد الشرطة داخل السجن وتفضح التعاون بين مدير السجن مع أفراد العصابات.
أبدى المخرج عناية فائقة ومدروسة لحركة شخصياته في أماكن ضيقة سواء داخل باحة السجن أو في الزنازين، بحيث صورها بألوان قاتمة تتحكم فيها الإضاءة التي تتوزع على ملامح الشخصيات زادتها القا وحضورا، تلك الزوايا والتكوينات التي اقتنصتها كاميرا اوديار المفعمة بلحظات من العنف والقسوة بانسيابية شعرية، ومثلها في مواقف حميمية من الحنين والصداقة .