في العصور المبكرة من التاريخ العربي والإسلامي لم تكن وظيفة «الحاجب» قد ظهرت، وكان الحكام والأمراء والمسؤولون يلتقون مع الناس في كل مناسبة دون وجود حواجز تحول بينهم وبين حرية الحركة ويسر الاتصال. غير أن هذا الحال ما لبث أن تغير مع ظهور الدولة الأموية، وتطورها، ووصولها إلى أبهة الحكم واستعارتها فكرة «الحجاب» من النظام الفارسي المنهار، كان ذلك انعكاسا لتأثر الغالب بثقافة المغلوب، إلى جانب كون الخبراء والمستشارين هم من الفرس الذين عاشوا حياتهم الأولى على هذه الثقافة التي تفصل بين الحاكم والمحكوم، وهذا كان شأن الرومان بالتوازي الزمني أيضا. ولم تلبث الدولة الإسلامية أن اتخذت لنفسها هذا التنظيم المؤسسي الذي يقوم على التراتبية الوظيفية، وما يمكن أن نسميه اليوم الهيكل الادراي، والتدرج، الأمر الذي أعطى لوظيفة الحاجب دورها وأهميتها. وإذا كانت الحاجة التنظيمية هي التي تتطلب وجود «السكرتاريا» في النظام الإداري المعاصر، فان هذه الوظيفة التي اشتدت الحاجة إليها في العصر الحديث قد غلبت عليها الشكلية، وأصبحت أسما على مسمى النظام القديم أي الحجب، بمعنى أنها باتت تمنع الناس من الوصول إلى المسؤول، سواء أعلت رتبته الوظيفية أم دنت في السلم الوظيفي الإداري، مما عطل مصالح الناس وألحق بهم الكثير من المظالم التي باتت تخفى على أولي الأمر لصعوبة الوصول إليهم، بل استحالته في بعض الأحيان. وسواء أكان الحاجب عند رأس الدولة أو الشخص الثاني أو الثالث أو عند وزير أو أمين عام وزارة أو مدير إدارة، فإن دوره ينبغي ألا يتعدى التنسيق وضبط المواعيد، ووضع الجدول الذي يعطي المسؤول فرصة أداء عمله على الشكل الأفضل، ولا يربكه أو يجعله يؤخر أعمال الناس ومصالحها أو احتياجاتها، أو يحول بينها وبين الإنصاف المطلوب. وإذا كان الحاجب رجلا في العصور القديمة، فإن العصور الحديثة ابتكرت فكرة السكرتيرة الأنثى،والشكوى من السكرتيرات اللاتي يمارسن دور الحاجب باقتدار، هذه الأيام عامة، وأحسب أن دور السكرتيرة بات يتعدى الحدود المرسومة ليصل إلى حد مشاركة صاحب القرار الإداري في قراره، وهنا يصل ببعضنا الأمر الى حد القول الساخر أن السكرتيرة الفلانية باتت هي المدير أو الوزير أو المسؤول في المؤسسة الفلانية!! ومع أن هذا القول يبدو للتندر، إلا أن واقع الحال بات يشير إلى أنه قد يكون في بعض الاحايين الغالب على مؤسساتنا مما يفقدها المصداقية ويجعلها عرضة لغياب القرار الحقيقي، ويخضعها للمزاجية، ناهيك عما في ذلك من محسوبيات لا تخفى! وهذا يستدعي إعادة النظر في نظام «الحاجب» في بلادنا، أو العمل على تطويره، وتخليصه مما علق به من شوائب، أو مما أصابه من ترهل أو ما التبس به من سوء استخدام السلطة أو النفوذ ، وتجيير الصلاحيات الى غير أهلها. ولا أرغب في ضرب الأمثلة، هنا، ولعل كل واحد من القراء الكرام يملك منها ما أملك وأكثر، فالقصص كثيرة وبعضها يكاد يغرق في الخيال، أو تحسبه كذلك، فإذا دققت فيه وجدته حقيقة ساطعة! وقانا الله وإياكم شر الحجاب والحاجبات!0