جميلة عمايرة - منجذبة للروائح العتيقة التي انبعثت مرة واحدة من دكان العطار ''أبو أحمد الحاج'' في شارع طلال، توقفت أمام الدكان، وسألت الحاج وأصابعي تعبث بأكياس حصى البان والميرمية ورجل الدب والكركديه والحبق، وغيرها مما يفيض عن سعة الدكان الصغيرة ويصل أول الرصيف:
- ما مصدر كل هذه الأعشاب يا حاج؟
''من خيرات بلادي، ومن الشام وحتى الصين!''، أجاب وهو ينظر إلى ساعته الفضية.
''بقي نحو ساعتين عن موعد الإفطار''، قلت له.
وعلى الفور حضرت ''زي''، مكاني الأول.
تجذبني الرائحة دائما، وهي دليلي الذي لا يخطئ في استعادة الأشياء والأماكن، واستحضار البعيدين.
أشم رائحة الياسمين الأبيض فتحضر أمي. كثيرا ما ارتبط الياسمين في ذاكرتي بها، وأشم رائحة الأعشاب، أي أعشاب، فتحضر ''زي'' وتعيدني الرائحة إليها. ربما لأن الناس في ''زي'' يزرعون النعناع البري والميرمية والزعتر والحبق في حدائقهم المنزلية الصغيرة. إذ قلما تجد بيتا واحدا دون أن تستنشق روائح الأزهار والنباتات العطرية. تقودك الرائحة وتشدك وأنت مغمض العينين، دليل لا يجانبه الصواب دائما.
في صباحات أيلول تشرق الشمس في ''زي'' على مهلها متأخرة، لترسل خيوطها الذهبية بهدوء وتمسح الندى عن وجه الأزهار والنباتات في الحدائق التي ما تزال غافية، فتنتشر الرائحة وتنعش المكان. ربما لهذا يقولون هنا إن أيلول ''طرفه مبلول''.
وفي المساءات ترخي الباتات أزهارها المتفتحة وأوراقها لتستقبل حبات الندى المتراكمة بفعل تيارات الهواء الباردة، وتغفو بانتظار شمس اليوم التالي.
عند الفجر أصحو، وأخرج، أعتقد للوهلة الأولى أنها أمطرت في الليل. تغرق المزروعات والنباتات والأشجار بالماء! أقطف وردة جوري فأجدها رطبة ومبللة. فجر ندي. أعود وأرتدي سترة بأكمام طويلة، وأبدأ رياضتي الصباحية: المشي.
البيوت القريبة المجاورة نائمة ما تزال. أسير بين أشجار البلوط والسنديان في طريق ترابي، أزيح الأغصان عن طريقي كي أسير فتبتل يداي، كأن الأشجار تغتسل في الليل الندي، إنه أيلول، شهر المزروعات والنباتات والأشجار. الندى من أجل إنضاج التين، يقولون.
ستشرق الشمس وتمسح حبات الندى الكثيفة عن وجه النباتات والمزروعات والأشجار لتصبح لامعة ومشرقة وتستعد لاستقبال النهار كالبشر تماما.
الرائحة
رائحة منعشة، تقودني في الطريق، تشبه رائحة الأرض بعد المطرة الأولى. منعشة، طازجة وقوية تذكرني بالتراب الذي منه البدء وإليه المنتهى.
رائحة أشجار البلوط والسنديان والبطم، رائحة برية حريفة تذكرتي بأول الأشياء وأصل الأشياء ومبتدئها والمنتهى.
أول الدرب
أول التعب
أول الحب
تزكمني رائحة الزعتر والميرمية النفاذة في الفضاء، وحين أعود من المشي، تكون الرائحة قد علقت بثيابي.
في الأمسيات أحاول أن أعد النجوم في سماء ''زي'' المفتوحة على الجهات كلها، وأفشل، أحاول ثانية، أعد خمسين، مائة نجمة، أكتشف أنني أكرر ما عددته قبل قليل، وأحيانا أعود لأضيع مكان النجمة التي أعطيتها شكل القلب، لأجدها قد غيرت مكانها أو توارت وراء غيمة عابرة، متعمدة تضليلي.
تعيدني ''زي'' للسؤال عن أول الأشياء وأصلها. قبل أن تكون ''زي'' ماذا كانت؟ هل صحيح حقا أنها أخذت اسمها من القائد الروماني ''zay'' ذات زمن غابر! لا تؤكد المصادر المكتوبة هذا، وإنما هو حديث رواة عن آخرين عمروا طويلا، وذهبوا في طريقهم بعد أن تركوا حكاياتهم للمقيمين.. أم إنها تنتسب للآلهة ''زيوس'' ؟ لا يجزم أحد بهذا، لكنه متداول عند كثيرين هنا.
أعادني قلب المدينة النابض في شارع طلال، إلى ''زي''.. ''زي'' التي تجاور ''جلعاد'' من جهة الشمس، بجبالها التي تكتسي بأشجار السرو والسنديان، وببيوتها الحجرية وخرائبها الأثرية، حتى إن الطريق شقت بصعوبة، لكثافة الأشجار.
''زي'' المعلقة شمالا بشام القلب، وبشمالها الغربي المفتوح على فضاء ''بيسان'' و''طبرية''.
في ''زي'' تسود المحبة، وتسيل من قلوب ناسها لتصل الغريب قبل القريب، والعابر قبل المقيم.
''زي'' ياسمينة بيضاء معلقة على نافذة روحي. طفلة تحبو بجدائل طويلة تلثغ بأول الحروف في أبجدية الحب.
''زي'' مهرة أصيلة ترمح في براري البلقاء بلا تعب، لتشرف على شفا أغوار القلب وحمرة الصحن.
''زي'' أكبر من قرية وأصغر من مدينة، لكنها تجيد مذاق المحبة وتمنحها للجميع. ربما هنا يكمن السر، سرها.
كل من عرفها واستنشق هواءها العليل، وتفيأ تحت شجرة من أشجارها، إذا حدث وغادرها لسبب من أسباب الحياة، يغادرها مكرها، ذلك أنه يعرف أن جزءا منه بقي فيها.
''زي''.. رائحة القيقب والنبق، وعطر الياسمين، وحلاوة القطين.
في الوقت الذي ''أحرد'' فيه من عمان ، لا يردني أو يرد رأسي سواها.
وحين أحس بالاكتئاب، أو يهدني التعب أو يصيبني السأم، لا يشفيني غير ''زي''، فترد روحي.
''زي''.. لملمة العائلة في صباحات الجمعة على إفطار الزيت من حقولها والزعتر من سهولها.
''زي''.. كرمة عنب متدلية، قطوفها دانية بطعم النبيذ.
صباح الخير من ''زي'' أقول له.
صباح الخير من عمان. يجيب.
وحين أغضب منه أشتمه وأشتم مدينته، فيضحك ويرد: صباحك خير من عمان.
صباحكم خير من ''زي'' الهوى.