د. محمد عبدالله القواسمة - لم يكن الشعر المعاصر يوما منقطعا عن جذوره التراثية، سواء أكان من الشعر الحر أم من قصيدة النثر؛ فالقطيعة مع الماضي مستحيلة ما دام الشاعر العربي يصوغ وجدانه بلغة الأم، فاللغة ليست حاملة كلمات فقط، بل حاملة أفكار وأنغام ومشاعر وأحاسيس أيضا، وما النص الشعري إلا عمل تركيبي يلتقي النصوص الأخرى، ويتفاعل معها في ما يسميه النقاد: التناص، ونسميه نحن: التعالق النصي، تمشيا مع الناقد الفرنسي جيرار جينيت؛ فهو أكثر وضوحا وأعمق دلالة.
من المجموعات الشعرية المعاصرة التي تلفت الانتباه بحنينها إلى التراث، وتعالقها بكثير من نصوصه، مجموعة الشاعر محمود الشلبي ''سماء أخرى'' (دار اليازوري، 2007)، فهي تنشد إلى التراث العربي قديما وحديثا، ويبدو هذا الانشداد في تعالق نصوصها بنصوص للمتنبي وجرير وابن الرومي وعمر بن أبي ربيعة، وكذلك بالنص القرآني والصوفي.
فقصيدة ''تنويعات وترية''، يبدأ كثير من مقاطعها بنصوص تراثية تحفز على القول، وتؤطر المعنى الذي يعبر عنه كل مقطع، وتلتقي بالدلالة العامة للقصيدة؛ ففي المقطع الأول الذي يحمل عنوان'' طواف''، نقرأ:
''لولا الحياء لهاجني شوق.
إلى بيت الحبيبة دون غيري.
ولزرتها غض الفؤاد على جناح قصيدة.
أو بيت شعر'' (ص 13).
يلاحظ أن قوله: ''لولا الحياء لهاجني''، يتعالق بنص الشاعر الأموي جرير، وهو يرثي زوجته في قوله: ''لولا الحياء لهاجني استعبار / ولزرت قبرك والحبيب يزار''.
وإذا كانت حبيبة جرير زوجته، فإن حبيبة الباث الشعري هي الأرض يحاول الطواف بها من خلال الخيال والرؤى؛ فما عجز عن تحقيقه بالفعل يحققه بالشعر. ويصل هذا التعالق النصي إلى حد التطابق في الوزن بين النصين؛ فالنصان من بحر الكامل، لكن الشاعر في خضم حنينه إلى الوزن التقليدي، ورغبته في التجديد، يندفع إلى توزيع البيت في أسطر لتساير الشعر الحر. ونعاين مثل هذا التوزيع في قصائد أخرى، مثل: ''أغنية غزلية''، ''وردة الدم القاني''، ''سيدة الدهشة''، ''أقحوانة الشمال''..
وإذا انتقلنا إلى المقطع المعنون بـ''عزاء'' من القصيدة نفسها نقرأ:
''غفل المعزي عن مصابي.
صار لي ظل من الحزن المعتق.
صرت غيري'' (ص 16).
فإذا كان ابن الرومي يتوجع لأن معزيه لم يعاينوا مصابه في فقده الشباب، ليتساءل مستنكرا: ''أأفجع بالشباب ولا أعزى / لقد غفل المعزي عن مصابي''، فإن الباث الشعري يتعمق حزنه عندما تسلب هويته، وتطمس حقيقته ويضاع تاريخه المترابط بتلك الحبيبة التي تمسك بها وما يزال رافضا كل من يقف في طريقه. إن مصابه ليس ضياع الشباب، ولكن ضياع الأرض التي غفلتها مفاوضات السلام، فكانت الحقيقة المنسية:
''قلت هذا..
قبل أن ننسى الحقيقة،.
في أحاديث...
السلام'' (ص 17).
ويبدأ المقطع المعنون بـ''متاهة'' بالتعالق بعمر بن أبي ربيعة في قوله: ''وعصيت فيك أقاربي فتقطعت / بيني وبينك عرى الأسباب''.
يقول الشلبي:
''وعصيت فيك أقاربي.
حتى تبين لي غصنا من الضوء الصباحي.
المحلى بانتظار الغائبين'' (ص 18).
فهنالك أمل في ظهور الضوء في نهاية النفق، وعودة الغائبين عن الأرض مع عودة المودة بين الأهل بخلاف ما حدث لابن أبي ربيعة وحبيبته.
ويتعالق ببيت المتنبي: ''جهد الصبابة أن تكون كما أرى / عين مسهدة وقلب يخفق''، مطلع المقطع المعنون بـ''صبابة'':
''جهد الصبابة أن تكون كما أرى.
قمرا يشاغلني على كتف المدينة،.
عندليبا يستفيد من الصياغة في النشيد،.
لكي يغني فوق رأس العاشقين،.
كما يريد''(ص 19).
إن الذات الشاعرة تتمثل الشوق قمرا يطل على المدينة أو عندليبا يغني للعاشقين، وهذا يتعارض مع ما يسيطر على المتنبي من صبابة، تتمثل في العين التي أضناها السهاد، والقلب الذي يخفق بالحب.
وفي المقطع ''دهشة'' من القصيدة نفسها، ينطوي موقف الشاعر على ثنائية واضحة تجمع بين الصحو والنوم، كما يحدث للمتصوفين:
''أنا مبصر وأظن أني نائم.
لي دهشة التكذيب من هول الرؤى.
ولي المفاجأة التي تأتي.
على حيد الطريق'' (ص 21-22).
ويتعالق هذا مع قول المتنبي: ''أنا مبصر وأظن أني نائم / من كان يحلم بالإله فأحلما''.
وتلتقي جراح قانا، القرية اللبنانية التي دمرتها القوات الإسرائيلية في العامين 1996و2006، مع إدانة أبي الطيب المتنبي لما يجري في الزمان من ويلات: ''صحب الناس قبلنا ذا الزمانا / وعناهم من شأنه ما عنانا''.
يقول الشلبي في قصيدة ''وردة الدم القاني'':
''فإذا تساءل سائل،.
عن شأن ما تركته مجزرة، ومقبرة،.
وعن موت العصافير الصغيرة.
قبل ميلاد الصباح،.
فلا تقل عنهم: عناهم، بالضرورة، ما عنانا.
هم وحدهم ناموا...
لكي يستيقظوا...
وننام كي يصحو سوانا'' (ص 130 - 131).
إن من قتل في المجزرة من أطفال ونساء وشيوخ، وسط عدم الاهتمام بشأنهم، هم الذين سقطوا شهداء، وهم أحياء عند ربهم، على النقيض منا نحن، فنحن أموات؛ نتقاعس عن العمل والنضال؛ ليتفوق علينا الآخر العدو.
ويتعالق مقطع آخر من القصيدة بنص من القرآن الكريم. يقول تعالى: ''هل أتاك حديث الجنود. فرعون وثمود'' (البروج: 17/18)، فما جرى لقرية قانا يستحضر ما قام به فرعون وثمود، فهما اللذان أحلا الخراب والدمار في قومهما بكثرة خطاياهم، وكذلك ما فعلته إسرائيل في قانا.
''هل أتاك حديث (قانا)؟!.
صوت تقطر أرجوانا.
وجع الجنوب،.
وجرحه.
وصهيله ملأ الزمانا'' (ص 123).
وتستعاد محمية ضانا في قصيدة ''سيدة الدهشة'' بتعالق بالنص القرآني وبنص للمتنبي؛ فضانا شهدت أحداثا كثيرة، واحتضنت حضارات مختلفة يدل عليها ما تبقى من نقوش على صخورها، وما سجله أهلها على أرضها من بطولات في تاريخها الحديث:
''قد لعمري آنست نورا ونارا.
مذ أقامت في حضنها الأقوام'' (ص 141).
وخيول على مشارف (ضانا).
''قد براها...
الإسراج والإلجام'' (ص 143).
ففي قوله: ''آنست نورا ونارا'' تعالق بقوله تعالى '' هل أتاك حديث موسى. إذ رأى نارا فقال لأهله امكثوا إني آنست نارا لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى (طه: 9/10). أما قوله: ''قد براها الإسراج والإلجام''، فبقول المتنبي: ''قائدو كل شطية وحصان / قد براها الإسراج والإلجام''.
وإذا كان القسم والتأكيد في قول الشلبي: ''قد لعمري..''، يجسدان الاعتداد بضانا وصمودها عبر التاريخ، فإنها تتحول إلى رمز للمكان كله في قوله:
''يا فلسطين.
كلما سال جرح.
لم ينم في الجنوب.
قلب'' (ص 150 ـ 151).
فما يجري في فلسطين يدمي أهل الاردن، فالهم واحد، وقد تجلى هذا المعنى عند كثير من الشعراء كما في قول عرار: ''موطني الأردن لكنني به / كلما داويت جرحا سال جرح''، وقول مطلق عبد الخالق: ''وتذكرهم إذا ما سال جرح / ونار القلب تلتهب التهابا''.
ونرى هذا القول عند الشاعر العماني سعيد بن مسلم من شعراء القرن التاسع عشر: ''كم أداوي القلب قلت حيلتي / كلما داويت جرحا سال جرح''.
وفي قصيدة'' مكاشفات''، يبدو المكان أنثى، وتبدو ذات الشاعر في تعالق روحي بمحيي الدين بن عربي في قوله المعروف: ''المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه''. والشاعر يرتقي بالأنثى من خلال إعلاء شأن المكان الذي تحل فيه.
''هذا المكان.
دخلته أنثى.
أنثته.
فصار مرموق المكانة'' (ص 57).
من اللافت أن التعالقات النصية في مجموعة الشلبي يرافقها استخدام كلمات وتراكيب قديمة، تحتاج إلى أن يعود المتلقي إلى القاموس ليتعرف معناها، ولعل الشاعر يتقصدها تجاوبا مع تعالقاته التراثية، واقترابا من عالم المتنبي الذي أعجب به كثيرا كما يبدو. من الكلمات نقف على: ''هيدلة'' (ص 62) ''ما أحيلى'' (ص 154)'' مقة'' (ص 159) ''النواصي'' و''شباة'' (ص 176)، ''الطلى'' و''الطل'' (ص 181)، ''الجآذر'' (ص 202)، ''العبهري'' (ص 213)، ''الكلالة'' (ص 242)، ''الكماة'' (ص 259).
هكذا يتبين لنا أن الشاعر محمود الشلبي في مجموعته''سماء أخرى''، وإن كان العنوان يوحي بأنه يحاول التحليق في سماء جديدة، بقي وفيا للتراث، في تعالقه بنصوصه، ومحاورته إياه، وملامسته معانيه. لقد سكن التراث شعره، لكنه لم يحتله ويسيطر عليه، فكانت هناك مساحة للتمرد.
[email protected]