يوسف ضمرة - إن كان ثمة تخصص نقدي ما، يمكن القول إن الناقد الأردني نزيه أبو نضال أصبح في السنوات الأخيرة مرجعا نقديا وبيبلوغرافيا في الإبداع النسوي. ولعل كتابه الأخير هذا (حدائق الأنثى، دار أزمنة، 2009) يعد تتويجا لجهوده المتراكمة خلال ما يقارب عقدا من اهتمامه وملاحقاته الحثيثة لكل ما تكتبه المرأة الأردنية خصوصا، والعربية عموما.
ولأن الكتاب يتسم بالشمولية في الموضوعات والقضايا والمفردات الفنية والثقافية والأجناس المتنوعة في إبداع المرأة، فإن من الصعب الإحاطة بكل ما ورد فيه، لذا سيقتصر الاهتمام هنا على عدد من الدراسات النظرية في الإبداع النسوي، كالمقدمة النظرية، وصعود القصة القصيرة النسوية، وظهور القصة القصيرة جدا، ومحاولته تقعيدها بعد محاولات عربية عدة في السياق نفسه، إضافة إلى رؤيته للسيرة الذاتية.
منذ البداية، يتخذ الكاتب موقفا واضحا من الكتابة النسوية، ويرفض رفض بعض الكاتبات لهذه التسمية، مبررا ذلك بالوضع الاجتماعي للمرأة العربية تاريخيا، وبالخصائص البيولوجية ثانيا. ويشير هنا إلى أن الكتابة النسوية لا تعني نسبتها إلى المرأة الكاتبة، بمقدار نسبتها إلى مضمون الكتابة نفسها، من حيث تناولها قضايا المرأة، ويحدد المسألة هنا بالجنسوية والجندرة.
لكن مبررات الكاتب في الانحياز إلى كتابة نسوية، ليست كافية. فالوضع الاجتماعي للمرأة العربية ليس نتيجة ثقافة مجزأة، مقدار ما هو تجل لثقافة اجتماعية ودينية واحدة، وهي ثقافة متغلغلة في المرأة العربية تغلغلها في الرجل نفسه.
ولم يكن ممكنا للمرأة العربية أن تخرج على هذه الثقافة التي تستعبد المرأة، لو لم يكن ثمة تحولات ثقافية شاملة، قادها الرجل في مراحل عدة، وما يزال حتى اليوم. وهذا يعني أن هذا التحرر النسبي الذي يتلمسه المرء في كتابة المرأة الأردنية والعربية، ما كان له أن يوجد لو لم يكن ثمرة تحرر أصاب الذهنية الذكورية العربية نفسها. أما القول بخصائص بيولوجية فيعني أن هنالك أدبا ذكوريا بالضرورة، يتبع تلك الخصائص البيولوجية المختلفة عن خصائص المرأة.
أجل، يمكن موافقة الكاتب في ما ذهب إليه، من أن نص المرأة وسيلة للتعبير عن حريتها. لكن هذا النص لم يصبح إعلان حرية للمرأة، إلا بعد أن تخلصت من التهميش الذي لفها عقودا طويلة. ولم تتخلص المرأة من ذلك نتيجة جرأتها النسبية، بل بسبب صعود الثقافة المهمشة كلها في العقود الثلاثة الأخيرة، على خلفية اهتزاز الثقافة الجمعية الواحدة، المتشكلة من مفاهيم وأفكار وقيم عامة. وهذا الاهتزاز جاء نتيجة التطور الطبيعي للمجتمعات العربية، شأن المجتمعات الأخرى، إضافة إلى الهزائم والانكسارات والإحباطات التي أصابت المجتمع الذكوري.
فقد كانت الهوية الاجتماعية هي الأقوى، وما تزال حتى اليوم. وكانت الهوية الذاتية غائبة أو مغيبة أو مهمشة، وما تزال كذلك إلى حد كبير، بعد أن حققت بعض الإنجازات في هذا السياق. ومع صعود الهوية الذاتية، أصبح لحرية المرأة هامش ما، مكنها من الكتابة والنشر. ولكن -وكما يشير الكاتب- فإن المرأة العربية في السيرة الذاتية مثلا، وجهت كل هجومها إلى الرجل، بوصفه صاحب القيد والحل والربط.
لقد صار في الوسع تلمس صعود هذه الثقافة المهمشة في مناح عدة، ككتابة المرأة وتعبيراتها عن هواجسها ومشكلاتها، والحضور المتزايد للتخوم البعيدة عن المراكز في العالم العربي، حيث تركز النشاط الثقافي والسياسي زمنا طويلا في المراكز، حاجبا حركة التخوم والأطراف ثقافيا وسياسيا. لكن التحولات التي أصابت المجتمعات العربية ثقافيا، إضافة إلى وسائل الاتصال السريعة وتوفرها للجميع، مكن التخوم والأطراف من فرض نفسها على المركز نفسه.
بهذا المعنى، لا تصبح كتابة المرأة فعلا أنثويا ثوريا في الوطن العربي. لكنها حين أتيح لها أن ترفع رأسها كانت بالضرورة مهجوسة بقضايا المرأة. والهجس بقضايا المرأة، لا يعني أن يكون الرجل هو المستهدف الأول والوحيد، من دون التفكير في عقود من التخلف العام. كما إن قيادة المرأة للمجتمع، لا تعني بالضرورة إنقاذ هذا المجتمع من الهزائم والانكسارات.
في هذا الباب -باب السيرة- يناقش المؤلف مفهوم السيرة الذاتية في شكل عام، ومفهومه عند السيرة الأنثوية العربية في شكل خاص. ويخلص إلى أن كتابة السيرة عند المرأة العربية أشد صعوبة من كتابتها بالنسبة للرجل، الذي يجد حرجا أحيانا في البوح بالتفاصيل. وعليه، فقد كان على المرأة أن تلجأ إلى الرواية والقصة كي تبوح بما في داخلها من خلال ألسنة أبطالها وأفعالهم. ولكن هذا -كما يرى المؤلف- لم يمنع بعض الكاتبات من التسلح بالجرأة أكثر من غيرهن، ويشير هنا إلى فدوى طوقان في رحلتها الجبلية، رغم أنها ليست سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق.
قضايا المرأة لا تشكل أدبا نسويا في أي حال من الأحوال، وإلا عدت ''آنا كارينينا'' رواية نسوية، بالنظر إلى ما تطرحه من قضية المرأة في مجتمع قيصري، يضاف إليها ملامح نسوية خاصة كعلاقة الأم بابنها مثلا. وهو ما ينطبق على ''ميديا'' و''مدام بوفاري'' و''عشيق الليدي تشاترلي'' وغيرها.
قضايا المرأة المرتبطة بالجنسوية والجندرة لا تبرر تجنيسا جديدا يسمى ''كتابة نسوية''. وصعود الكتابة النسوية مؤخرا إنما يأتي في سياق من التحولات الثقافية والاجتماعية العامة، التي أتاحت المجال لصعود الكثير مما كان مهمشا أو هامشيا. إضافة إلى أن هذه التحولات أتاحت الفرصة للتحرر من قيود ثقافية متوارثة كعمود الشعر العربي، ما فتح الطريق إلى قصيدة التفعيلة أولا، ثم قصيدة النثر ثانيا.
وإذا كان المؤلف يركز اهتمامه على قصة المرأة، بوصفها الأكثر تعبيرا عن الأدب النسوي، فإنه يكتفي بالإشارة فقط إلى صحوة الفن التشكيلي الأردني ودور المرأة فيه. ولعل ممارسة المرأة الأردنية دور الفنان التشكيلي يعد سابقا ومتقدما على كتابة القصة، بالنظر إلى أن التحولات الثقافية والاجتماعية، وجدت صداها بداية في الطبقة البورجوازية، التي كان في استطاعتها ماديا ممارسة هذا الفن، وتناول قضايا المرأة أيضا.
وفي مجال الرواية والنقد الأدبي، برزت أسماء عدة من الكاتبات في الأردن، بالتزامن مع صعود قصة المرأة. ولكن المؤلف وجد في قصة المرأة تحديدا مثاله ونموذجه الذي يبرر التجنيس الجديد، وانحيازه إليه. وربما يعود ذلك إلى المعيار الكمي أكثر من النوعي. فالشعر الذي تكتبه المرأة الأردنية أكثر مدعاة للتفكير في أدب نسوي لو تم اعتماد مبررات أبو نضال. ولا تشذ الرواية عن ذلك أيضا. كما أنه لا يمكن القول إن هذا العدد الكبير من الكتابات القصصية التي أنتجتها المرأة الأردنية، كان بمثابة نص يحرر المرأة.
وإذا كان المؤلف يرى أن ما ساقه من مبررات كافيا لهذا التجنيس، فإن كاتب هذه السطور يحترم هذا الرأي، وإن كان يختلف معه إلى حد ما، رغم القناعة بقدرة المرأة على التعبير عن قضاياها أكثر من الرجل.
أما ما يذهب إليه الكاتب من أن الظاهرة الإبداعية الأبرز في الأردن هي القصة النسوية، فهو رأي يعد أكثر أهمية مما سبق، حيث لا يمكن الجزم برأي كهذا استنادا إلى أن المرأة هي حفيدة شهرزاد. ولا يمكن إغفال التجارب القصصية الأردنية أو التقليل من شأنها استنادا إلى فصل جنسي، يرى المؤلف فيه أن هذا الصعود الكبير لقصة المرأة يشكل أيضا تفوقا على ما عداه من قص آخر.
هذا يخالف ما ذهب إليه ناقد مثل د.محمد عبيد الله، حين أشار إلى أن هذا الصعود في العقد الأخير من القرن الماضي قد توقف عند نقطة معينة، وأن التطورات الفنية الحقيقية التي طبعت فن القصة الأردنية، إنما جاءت بأقلام كتاب القصة السابقين، الذين بدأوا الكتابة في سبعينيات القرن المنصرم، وتمكنوا بفضل متابعاتهم وإخلاصهم لفن القصة القصيرة من مواكبة التطورات الفنية وعكسها في كتاباتهم، كما تجلى ذلك في مجموعات قصصية عدة لهذا الجيل صدرت في العقد الأول من الألفية الثالثة، كما يقول.
ولا يعني هذا إسقاطا لقصة المرأة أو انتقاصا من قيمتها، فقد تمكنت بعض الكاتبات في الأردن من فرض أسمائهن بحق في هذا الميدان، وقدمن الكثير من تجليات هذا الفن أو الجنس الأدبي. لكن اللافت أن كثيرا من كاتبات القصة يكتفين غالبا بمجموعة واحدة أو اثنتين، فتبدو المسألة مجرد اختبار ثقافي واجتماعي للذات ليس إلا، وهو ما يجعل كثيرا من هذه الكتابات أقرب إلى الكتابة الأوتوبيوغرافية منها إلى فن القصة النقي، باستثناء ما أنجزته الكاتبة بسمة النسور ضمن مشروعها القصصي.
وفي موضوع القصة القصيرة جدا، فقد سبقت الإشارة إلى الارتباك الذي يعتريه، بالنظر إلى تأثره بقصيدة النثر والخاطرة، وبالنظر إلى استسهاله من قبل الكثيرين، الذين يعتقدون أنه مجرد جمل قليلة ذات لغة شعرية حينا، وتنطوي على ما يسمى: المفارقة. رغم أن كثيرا مما ينسب من صفات القصة القصيرة جدا، إنما كان من لوازم القصة القصيرة في مواجهة الرواية، كالتكثيف والاقتصاد اللغوي والمفارقة.
ليس معروفا سر إيراد فصل نظري عن القصة القصيرة جدا في كتاب ''حدائق الأنثى'' الذي يعنى بالكتابة النسوية حصرا. وليس من تفسير لذلك، إلا أن المؤلف ربما يحاول أن يشير إلى أن المرأة القاصة أكثر ميلا إلى القصة القصيرة جدا، إضافة إلى وجود فصل تطبيقي يتعلق بقصص بسمة النسور.
تبقى الإشارة إلى أن اختيار القصة من جانب المرأة لإعلان التمرد الأنثوي، وتفضيلها على الرواية، ليس من قبيل الابتعاد عن التفاصيل المحرجة، ما دامت قصص قصيرة عدة، تحفل بهذه التفاصيل من دون خوف أو تحوط.
لكن السبب الحقيقي يعود إلى نقص في خبرة المرأة الأردنية اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، الأمر الذي يجعل اقتحامها عالم الرواية أمرا شديد الصعوبة، خصوصا في مجتمع حديث التشكل، يجد الكاتب الرجل فيه صعوبة في ولوج العالم الروائي الذي يتطلب تاريخا طويلا من العلاقات البشرية والتحولات الاجتماعية والسياسية، التي تتيح للكاتب حرية الابتعاد خياليا إلى مدى بعيد عن الواقع الموضوعي.
في الأحوال كلها، فإن هنالك الكثير من الفصول التي لا يمكن تناولها هنا، بالنظر إلى شمولية هذا الكتاب، الذي يتناول السيرة الذاتية والرواية والشعر والنص والمسرح والدراما التلفزيونية أيضا.