كان الإمام محمد بن علي بن عبدالله بن العباس، صاحب دعوة العباسيين من بني هاشم، عابدا زاهدا، كان له في الحميمة بستان فيه اكثر من خمسين شجرة فكان يصلي تحت كل شجرة ركعتين، وهو ذو الثفنات، شبه اثر السجود بجبهته وأنفه ويديه بثفنات البعير، وكان له علم وفقه ورواية، وكان ثقة ثبتا مشهورا، وكان مجاهدا يغزو الصائفة هو وعدة من اخوته ومواليه.. ذلك ما جاء في «انساب الاشراف» للبلاذري، وفي كتاب «اخبار الدولة العباسية» لمؤلف مجهول من القرن الثالث، كما اورد ذلك المؤرخ الاستاذ حسين عطوان في كتابه: «الدعوة العباسية: تاريخ وتطور». ولقد حفظ لنا التاريخ رسالة هذا الإمام الى القائمين بأمر دعوته، فرأيناه يقول لهم فيها: - «عليكم بمحاب الله، وصدق الحديث، ووفاء العهد، وأداء الامانة، وترك الخيانة، وبذل السلام، وطيب الكلام، وحسن العمل، وقصر الامل، وترك الحرام، واخذ الحلال، وعرفان الحق، وانكار الباطل، ولزوم الايمان، والتفقه في القرآن، واتباع التقوى، وفراق الهوى، واجتناب قرناء السوء». تلك هي صفات الامام، وتلك هي الصفات التي كان يريد لرجاله ان يتمتعوا بها. نظام اخلاقي صارم، وفقه وعرفان، وحسن بيان.. وكان هذا الإمام وثيق الصلة بأبي هاشم عبدالله بن محمد بن الحنفية وقيل انه اوصى اليه بالامامة وسلم اليه كتب الدعاة، وأوقفه على ما يعمل به، فهو إن صدقت الرواية قد افاد من فقه آل البيت، وصدر عن مشكاتهم.. والعبرة التي نقصد اليها من هذا كله ان ثمة كفايات معرفية واخلاقية لا بد من توافرها في كوادر اية دعوة يراد لها النجاح، او في بنية اية دولة يراد لها التوطيد والتأييد. وإن مما تحقق تاريخيا على ايدي الرجال الذين تولوا الدعوة الى «الرضا من آل محمد» انهم اقاموا دولة استمرت اكثر من خمسمائة عام، وما كان ذلك ليكون في اعتقادنا لولا تلك المناقب التي كانوا يتمتعون بها، والتي يعتبر الاستمساك بها الشرط الموضوعي الاول لتماسك الدول وبقائها وازدهارها. لقد امكن لهؤلاء الدعاة - وهم إعلاميو ذلك العهد - بما كان لهم من وعي وفقه وخطاب معتبر ان يهيئوا، في مدى اثني عشر عاما، لقيام ملك هاشمي مترامي الاطراف وحضارة متميزة عز نظيرها. وإن في ذلك ما يدفع الى التفكر في اسباب هذا النجاح المعجب، وفي امكان ان نقيس اليوم عليه، او ان نفيد منه على نحو او آخر.. لقد انبعث من بين يدي الامام محمد، حوالي عام (120) للهجرة سبعون داعية منهم اثنا عشر نقيبا، فما أن انتصف عام (132) للهجرة حتى كان ابو جعفر المنصور يبني بغداد وما ادراك ما بغداد. فانظروا الى الذي صنعه اولئك الدعاة، ثم صوبوا انظاركم الى اعلامنا العربي، والى ما يشهده من بلبلة واضطراب وضعف خطاب - إن كان ثمة دعوة وخطاب - ثم قولوا رحمكم الله إنا لله وإنا إليه راجعون.