دمشق في التاريخ.. بين الأساطير والواقع

دمشق في التاريخ.. بين الأساطير والواقع

د.محمد م. الأرناووط - بعض المدن العريقة تختلط حولها الأساطير بالتواريخ، لذلك يصبح من الصعب أحيانا الفصل بين ما هو أسطوري وما هو تاريخي. من هذه المدن دمشق وحلب وأريحا. فقد كان يقال عن دمشق إنها أقدم مدينة مأهولة في العالم ، ثم أصبح يقال: أقدم عاصمة مسكونة بعد منافسة مدن أخرى (مثل حلب وأريحا) لها بالتواريخ.
بمناسبة احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية 2008، رأت لجنة كتابة تاريخ العرب في جامعة دمشق، أن تبادر إلى عقد ندوة دولية عن دمشق في التاريخ . وقد عقدت هذه الندوة خلال 20-24/11/2006، ونشرت أعمالها خلال العام 2008 في مجلدين اثنين بأكثر من 1100 صفحة، مما يجعلها مرجعا عن دمشق عبر العصور.
ومع أن الندوة أريد لها أن تكون ندوة دولية، إلا أن المشاركة فيها اقتصرت على باحثين عرب من الجزائر إلى العراق، وكان أوراق المشاركين من الجامعات الأردنية متميزة في موضوعاتها وفي منهجيتها (محمد عيسى صالحية، محمد خريسات، صالح درادكة، أحمد الجوارنة، فاضل بيات، غيداء خزنة كاتبي، هند أبو الشعر ومحمد الأرناؤوط).
وكما في كل ندوة تجمع بين الغث والسمين، فقد رأت هيئة تحرير أعمال الندوة ألا تجامل أحدا، وألا تنشر من الأوراق إلا ما يستحق النشر ليكون مع غيره مرجعا عن دمشق. وهكذا يلاحظ أنه في أعمال الندوة المنشورة غابت أسماء معروفة من قسم التاريخ بجامعة دمشق، بينما نشرت كل الأوراق المشاركة من الجامعات الأردنية.
وقد راعى توزيع الأوراق على مجلدين (19 ورقة في المجلد الأول، و17 في المجلد الثاني) استعراض تاريخ دمشق في الجوانب المختلفة منذ أقدم العصور حتى نهاية الحكم العثماني. وفي هذا السياق يتميز الجزء الأول بأوراق تعتمد على المكتشفات الأثرية وليس على الروايات الأسطورية، مثل ما قبل دمشق لسلطان محيسن و اسم دمشق في التاريخ لمحمود أحمد، و دمشق في التاريخ من 3333-333 ق. م. لفيصل عبدالله، و دمشق في المصادر الآشورية لعيد مرعي.
ونظرا لتعذر الحفر في دمشق الحالية، إلا ما يعثر عليه بالصدفة، فإن د.فيصل عبد الله يفاجئ القارئ بالقول: إذا تركنا جانبا الأسطورة والملاحم الأدبية القديمتين، فإن الحفائر الأثرية لم تقدم شواهد كتابية أو قرائن يمكن تأريخها أبعد من بدايات عصر الحديد، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد... ويتلو أقدم إشارة كتابية عنها في عصر البرونز الوسيط قرون من الصمت ولا يوجد سوى إشارات معزولة في عصر البرونز المتأخر .
بناء على ذلك يصل عبدالله إلى القول: علينا الانتظار حتى القرنين التاسع والثامن من ق. م. لنقرأ بعض المعلومات المتصلة في الحوليات الآشورية ، وهو ما يتناوله في ورقته د.عيد مرعي. ومع ذلك يلاحظ أن لدينا فجوة تمتد نحو 15 قرنا، إذ إن ورقة د.بينانج قابلو دمشق بين القرنين التاسع والثامن قبل الميلاد يعقبها ورقة د.صالح درادكة عن الفتح الإسلامي لدمشق. بعبارة أخرى، يلاحظ هنا غياب لتاريخ دمشق في العصر الهلنستي والعصر الروماني والعصر البيزنطي، التي ما تزال لدينا آثار منها، بينما تغطي معظم الأوراق تاريخ دمشق من الفتح الإسلامي والحكم الأموي إلى الحكم الأيوبي.
يلاحظ في هذه الأوراق أنها تتنوع لتشمل إجراءات الأمويين لتحويل دمشق إلى مدينة إسلامية و إدارة ضد بغداد في العصر العباسي الأول ، وصولا إلى دور الملك المعظم عيسى حاكم دمشق في مواجهة الحملة الصليبية الخامسة على مصر ، مرورا بالجانب الحضاري الجديد الذي يمثل أطباء دمشق وعلى رأسهم ابن أبي صبيعة في العصرين النوري والأيوبي، والتفاعل الحضاري بين المشرق والمغرب، لكون دمشق كانت محطة للمغاربة والأندلسيين.. إلخ.
أما المجلد الثاني، فقد احتوى أوراقا عدة عن الفترة الانتقالية (الاحتلال المغولي)، بينما جاءت معظم الأوراق عن العصر المملوكي والعصر العثماني، ك صورة العثمانيين في مجتمع دمشق في أواخر عهد الدولة المملوكية الثانية لهند أبو الشعر، و المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية في مدينة دمشق 954 ه/1545م لمحمد عيسى صالحية، و الدور المحوري لدمشق في بلاد الشام في العهد العثماني لفاضل بيات.
وقد تميزت هذه الأوراق بكونها تحمل جديدا، نظرا لاعتمادها على وثائق ومصادر غير معروفة. وهكذا نجد أن ورقة د.فاضل تنسف المعلومات التي تدرس في الكتب المدرسية والجامعات عن ولاية الشام بعد الفتح العثماني، حيث أثبت أنه ليس صحيحا القول إن بلاد الشام قد قسمت إلى ثلاث ولايات بعد الفتح العثماني (ولاية دمشق، ولاية حلب وولاية طرابلس)، بل إن السلطان سليم شكل ولاية واحدة باسم ولاية العرب مع دمشق مركزا لها. وبعد وفاته بنحو ثلاثين سنة (1549) تغيرت السياسة العثمانية وتم تشكيل ولاية حلب من ألوية تابعة ل ولاية العرب التي أصبحت الآن ولاية دمشق ، بينما تم تشكيل ولاية طرابلس في العام 1579 من ألوية تابعة لولايتي دمشق وحلب.
لكن في المقابل، لدينا أوراق في هذا الجزء عن العصر العثماني تحتوي على معلومات عامة وأخطاء فادحة، وكان يجب أن تحكم للنشر من متخصصين كي لا تقلل من قيمة المجلدين كمرجع علمي عن تاريخ دمشق عبر العصور. ففي ورقة ميثاق دمشق لعام 1333ه/191 م ومدى أثره في تحقيق الاستقلال العربي يرد الحديث عن تأسيس الجمعية العربية الفتاة و حزب العهد بعد 1908، ثم يقول الباحث: برز إلى الساحة من هاتين الجمعيتين رجال أكفاء استخدموا في التأثير في الشعوب العربية بأقلامهم وخطاباتهم، ومن هؤلاء عبد الرحمن الكواكبي (ص 474-475)، علما أن الكواكبي كان قد توفي في 1902! وفي حديثه عما حدث في الدولة العثمانية في 1908 يقول المؤلف: بعد أن استولت جمعية الاتحاد والترقي على السلطة بزعامة مصطفى كمال أتاتورك سنة 1908 اتجه الاتحاديون إلى علمنة الدولة... وألغوا القانون الإسلامي واستبدلوا به القوانين الوضعية، وفرض السفور على المرأة المسلمة، واستبدلت الحروف اللاتينية بالعربية، وغير ذلك مما يقطع الصلة بين العرب والأتراك . ومن الواضح هنا أن المؤلف يغالط التاريخ حين يدفع مصطفى كمال (الذي كان شابا يافعا آنذاك) إلى زعامة الاتحاد والترقي ، وينسب إليه ما لم يحدث آنذاك (استبدال الحروف اللاتينية بالعربية.. إلخ) كي يحمله مسؤولية ما يقطع الصلة بين العرب والأتراك !.
مع تقدير الجهد الكبير الذي بذله محرر الكتاب د.عبدالكريم علي، أمين سر لجنة كتابة تاريخ العرب ورئيس تحرير مجلة دراسات تاريخية ، في تدقيق الأوراق التي شاركت في الندوة واستبعاد ما لا يصلح للنشر، إلا أن المرء يفاجأ بورقة منشورة لم تكن مطروحة في الندوة وليست لها علاقة بموضوع الندوة من قريب أو بعيد، حتى إن عنوانها الطويل يدل على ذلك دمشق.. عبر قرطبة وأهل الكتاب وما يفيد مفاوضات السلام السورية الإسرائيلية حيث كانت الحضارة العربية هي التي أسست أسلاف الصهيونيين (ج 2، ص 203-224).
على كل حال، يمكن القول لمن يهتم بدمشق وتاريخها عبر العصور، إنه أصبح لدينا مرجع جديد يفيد في التعرف على بعض الجوانب الأثرية والسياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تحتاج إلى مزيد من البحث حتى الآن.