أحمد إبراهيم العتوم - احتل التأويل الفلسفي موقعه في الفكر الفلسفي المعاصر، كموضوع ملح لمواجهة إشكاليات المعاني، والغايات، وتعقد الحياة عموما؛ فأخذ بالتوسع حتى بات يشتمل على مجمل ظواهر التاريخ ممكنة الفهم والمعقولية، ليحقق بذلك شموليته وعالميته، فالتأويل منذ راج في مراحل نشأته الأولى بالصورة التي اقتضتها مقاصد النصوص، كالنصوص الدينية والفلسفية وغيرها، لم يحظ بالمكتسبات التي توافرت من خلال العلوم الإنسانية الحديثة والأنثروبولوجيا الفلسفية، بما وصلت إليه هذه العلوم من تحديدات وتحريات مهمة لإشكالية المعني المتعلق بالوجود الإنساني.
وفي جانب منه، اتجه البحث في هذه العلوم إلى ما يمكن مقاربته بالتحديد الموضوعي للعلاقة بين الذات والتراث، مما سمح للتأويل الفلسفي بالعمل في ظلال جدلية كامنة بين الذات والموضوع؛ فأقصي بذلك الفعل الفلسفي الذي يبحث عن الحقيقة وهو ينظر إليها كطرف خارجي وغير محايث لأنشطتنا المعرفية.
لا شك أن الأثر الفاعل للتاريخ، قد أفصح عن دوره في استجابتنا التأولية، فالماضي يستجوبنا ويرد علينا. وأن ندرك الماضي التراثي، يعني أن نمضي قدما في استنطاق المعنى؛ ففي ذلك دعوة حثيثة للحقيقة.
لقد اهتم هانس ج. غادامير بالأحكام المسبقة التي يجري نقدها لديه في ضوء التأويل الفلسفي (الهرمينوطيقا)، لتعود مصوبة كفهم مسبق ومحرر، يسمح بتوجه فكري دون أن يفرض تفكيرا معينا. فنحن منقادون لمعاني الماضي، قبل أن نجد أنفسنا في موقع للحكم عليها. إن التراث محايث لنا ومحدد لموقعنا قبل أن يجري تحديد موقعه من قبلنا. بهذا المعنى تأتي المسألة التراثية كضرورة مسبقة لتحويل المعنى التاريخي الفعلي، في سياق جدلية المزامنة بين الماضي والحاضر، وبالتالي تفادي إضفاء الهوية المطلقة الهيغلية التي اختزلت تعدد التاريخ في دائرتها. ولهذه المهمة جاء غادامير بنموذج أسماه انصهار الآفاق ، ليفتح أفق الماضي التاريخي، متضمنا في أفق الحاضر، مع بقاء الماضي منفصلا، وغير خاضع لهيمنة الحاضر بفرض فهمه عليه.
وهذا بول ريكور الذي تأثر بفلسفة غادامير، يؤكد أن المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الماضي ليست فاصلا ميتا، بل هي تحويل إبداعي للمعنى. وهذا هو معنى التراثية.
إن التراث بنظر غادامير ليس عائقا أبستمولوجيا يحول دون إدراك الحقيقة، بل هو لحظة من لحظات تجلي الحقيقة، التي يطمح إليها الباحث في مجال العلوم الإنسانية. وهذا ما تخطته الفلسفة الوضعية التي انتهت إلى التاريخانية كشكل أخير لها؛ وقد وجه غادامير نقده إلى التصورات الوضعانية التي تطلعت إلى منهجية للعلوم الإنسانية، على غرار الموضوعية العلمية الدقيقة المستبعدة للذات التاريخية، كي تضمن الحصانة العلمية لهذه العلوم، ومن ثم الوصول إلى قواعد عامة تسمح بمثول الحقيقة المطلقة أو اليقين المطلق.
لكن غادامير رفض المسير بهذه الوجهة، مثمنا في هذا المنحى، دور العالم الفيزيائي هارمان فون هيلمهولتز الذي سعى إلى الربط المحكم أبستمولوجيا بين علوم الفكر: العلوم الإنسانية والاجتماعية، أو علوم الروح كما يسميها الألمان، من جهة، وعلوم الطبيعة من جهة أخرى.
المنهج العلمي ليس المنهج الوحيد القادر على خوض تجربة الحقيقة. كما أن المنهج نفسه في هرمينوطيقا غادامير ليس هو الوسيلة الوحيدة للاقتراب من الحقيقة ، ولم تكن الحقيقة نفسها يقينية مطلقة كما لو كانت مضمونة من قبل الأدوات المنهجية.
لكن الفهم الممنهج -كما يبدو- على طريقة مطلقات العلم، يؤخذ في إطار الغاية الشمولية القائمة على البنية المشتركة التي توحد بين الظواهر التأويلية؛ غير أن هكذا توجه يشوه الفهم، ويضعف فكرة المعنى الأساسية في هرمينوطيقا غادامير؛ فالنهج المتبع لديه، يتأسس على فهم ينبثق من صلب الوجود البشري في العالم، على أساس يماثل الوحدة الديالكتيكية بين الذات والموضوع التي تضفي خبرة أولية سابقة على كل تفكير منهجي ؛ لكننا لا نعرف هنا، أثر هذه الخبرة الأولية عند غادامير في مقدرة الفاعل الإنساني في فعل التاريخ، أو على تراجع تلك المقدرة لصالح جعل الفاعل مجرد منفعل بالتاريخ؛ وفي هذا الصدد، يمكن استذكار رأي ماركس القائل إن الإنسان يصنع التاريخ استنادا إلى ظروف ورثها سابقا.
قامت هرمينوطيقا غادامير على الفهم المتجذر في الوجود الإنساني. والهرمينوطيقا بهذا الاتجاه، تبني على وجهة نظر هيدغر، لا سيما الماثلة في كتابه: الوجود والزمان ؛ حيث يتكشف مع هذا الأخير، ضعف اعتبار الفهم كحالة بسيكولوجية، منسوبة إلى الشعور؛ إنما هي حالة تنتمي في الأساس إلى الإنسان كمشروع كائن ينجز نفسه في تجربة العالم. فالفهم يمضي بنا عند غادامير كنمط وجود، لا كنمط سلوكي للذات . لهذا اتجه النقد صوب تموضع الفهم في مركز يتقوم فيه العنصر المشترك، بين جميع أنماط الفهم التي تفرض نفسها في الغالب على الموضوع، كسلوك ذاتي ذي صبغة معيارية؛ وإذ تضع هذه الأنماط بدورها، مسافة بينها وبين الموضوع المراد تفسيره، فإنها تغفل بذلك عن حقيقة الفهم وحقيقة الموضوع بوصفهما ينتميان إلى وجودنا في العالم.
ويبدو أن علوم اللغة والأنثربولوجيا الفلسفية عموما، قد أفسحت المجال جيدا لتشخيص أسرار فلسفة المعنى المتعلق بالوجود الإنساني، وأن دلالة هذا المعنى، لأكبر وأغنى من مجرد بقائه يرزح تحت سيطرة العلم، ويدور في فلك مكتسباته التكنولوجية. نعم، بالعلم نفسر الظواهر ونكتشف ونتقدم؛ لكن حركة الفهم -التي تمثل علاقتنا بالشيء والانفتاح على مكتسبات خبرتنا في هذا العالم- تبقى أسيرة العلم وتالية عليه؛ حتى إن الفهم المقصود بذاته، يبقى دوره الأساسي مغيبا من حيث قدرته وكيفيته الفريدة، على أثر الحجة التي قد تطغى بفعل الموضوعية الدقيقة للعلم.
وفي ضوء العلاقة الضرورية بين الفهم والتفسير عند غادامير، تجدر الإشارة إلى الفهم البشري المتناهي في ضوء تعدد التفاسير واختلافها، على نحو تمضي فيه لاجتياز مراحل تطور الفهم عبر السياقات التاريخية. ف الفهم نسبي، ومحكوم تاريخيا، فيبقى بالتالي غير مكتمل بوصفه مشروعا ينجز نفسه دون أن يبلغ اليقين. فالهرمينوطيقا التي يتتبعها غادامير تتميز بنسبية لا مكان فيها للمطلقات، لأنها تعمل ضمن تاريخية متجذرة في الزمان. بينما النسبية ذات الطابع المطلق، هجرت الزمانية إلى اللازمانية؛ وكان هذا نهجا متبعا في الميتافيزيقا الغربية الكلاسيكية.
كان غادامير وفيا لأنطولوجيا الفهم التي رسمها هيدغر، وأبان من خلالها عن المشكلات الأبستمولوجية والمعيارية التي وقعت فيها التاريخانية وهي تزعم إمكانية الوصول إلى أساس متعال ونهائي للحقيقة الإنسانية. وخلافا لمنطلق التاريخانية أخذ هيدغر بمسألة تناهي الوجود البشري وتجذره في الزمانية الذي يكشف إمكانيات الوجود الإنساني في العالم المعاش، أو ما يسميه هيدغر: الدازاين ؛ وبهذا المعنى يأتي المسعى من أجل وعي نقدي لتناهي الدازاين ، وعلاقة ذلك بالديمومة والزمانية والكلية.
في ضوء ذلك عمد غادامير -الذي حافظ على أصالته رغم تأثره بهيدغر- إلى صرف النظر عن اعتماد الحقيقة المطلقة الممنهجة في العلوم الإنسانية على غرار علوم الطبيعة. وقد أوضح غادامير في كتابه الحقيقة والمنهج أن العلوم الإنسانية في إطار تجاربها الفلسفية والفنية والتاريخية، خارج دائرة العلم، تضيف للفهم حقائق مغايرة عن تلك المقيدة بمنهج العلم. لقد مضى غادامير بنسف التفكير الذي يعد المنهج العلمي المنهج الوحيد القادر على ضمان تجربة الحقيقة. وعلوم الطبيعة كما يصفها غادامير، لها دور كبير في تنمية الململة والضيق اللذين نعيشهما اليوم أكثر من التقليل من وحدتهما ؛ كما أنه لا يمكن لمناهج علوم الطبيعة أن تدرك ما هو جدير بالمعرفة ولا حتى ما هو ثمين، بمعنى الغايات القصوى التي ينبغي لكل هيمنة على آليات الطبيعة أو الإنسان تأديتها. إننا ننتظر من العلوم الإنسانية أن تمنحنا نمطا ومستوى آخر من المعارف، وهذا ينطبق أيضا على الفلسفة التي تتضمنها هذه العلوم.
هكذا، يأتي تفهم هرمينوطيقا غادامير، باعتمادها الممارسة الذاتية التي تتموضع في أرضية نقدية، تجعل الفهم يلازم الشيء أو الموضوع الذي نتوخى فهمه. وبهذا تتشكل إمكانية التمييز بين التأويلات الزائفة للأحكام المسبقة من التأويلات الصحيحة التي توجه الفهم، وذلك من خلال المسافة التاريخية التي تدعو للتأويل النقدي، وتمكن من تشخيص شتى الإشكاليات التي انبرى لها التأويل والفهم عند غادامير؛ إن تجاوز مثل هذه الإشكاليات يعني تجاوز الفهم للعديد من القضايا التي تتضمنها حقائق التراث والمفترض تطبيقها وصهرها في بوتقة القضايا الراهنة بإحياء دلالات مطموسة وبذور معرفية مغروسة وبعث أفكار من طي الكبت والنسيان وغياهب اللغة واللسان .
أما التأويل الرومانسي، قد مضى مأخوذا بمنهجية تتأسس على ثنائية الفصل بين الذات والموضوع، فغفل بالتالي عن عالم الخبرة الإنسانية المباشرة، السابق على المنهج التصوري؛ وبات يحجب عنا عالم الأشياء الذي نحيا فيه على نحو أليف، فالأشياء تتملك طبيعة خاصة بها، وعلينا أن نتكيف ونتوافق معها، لا أن نفرض تصوراتنا عليها وننظر إليها كمجرد أدوات للاستخدام .
يسعى غادامير من خلال الهرمينوطيقا برمتها إلى فهم الفهم في محاولة منه لاختراق الحواجز القائمة بين اللغات المختلفة في العالم، من أجل الوصول إلى نقطة اتفاق مشترك بين الموجودات البشرية، حتى يتحقق المعنى المشترك في إطار لغة مشتركة، ومستهدفة في الهرمينوطيقا.
الفهم عند غادامير، يتلازم مع اللغة التي تقف على أرضية تتمثل في طبيعة العقل. وعليها تتأسس تشكيلات الفهم إزاء تفحص إشكالية التأويل. ولعل اللغة بهذا المعنى تقف بموازاة المكانة التي وصلتها مع هيدغر بقوله إن اللغة بيت الوجود . فاللغة -بنظر غادامير- وجود ممكن فهمه وإدراكه، وتوظيف هذا الفهم والإدراك، بالتالي، في خدمة القضايا المتعلقة ب الوجود التاريخي ؛ اللغة بهذا المنحى لا تتملك صدارة التأويل الفلسفي لدى غادامير، بحيث تغدو المعيار والمحك لجميع الأشياء؛ ومما يمكن ذكره في هذا السياق، أن هرمينوطيقا غادامير قد تعرضت لنقد هابرماس الذي حدد مهمتها بوصفها مجرد هرمينوطيقا لغوية.
من خلال اللغة الإنسانية المشتركة التي ذكرنا -حيث تتاح تجربة تعلم اللغات واكتساب الخبرة- يمكن الوصول إلى اتفاق ومن ثم إلى فهم، ما دامت الهرمينوطيقا تأخذ على عاتقها مهمة التوغل في اللغة، فتقيم بالتالي أفضل اتصال وتواصل يقود في نهاية المطاف إل معرفة العالم.
بقي أمر وتعلق بمواجهة التأويل الفلسفي للتصعيد الناجم عن قضايا اغتراب الإنسان عن عالمه، في وسط تتصارع فيه الثقافات البشرية المتأزمة بصورة أكثر مع مستلزمات الدمج الثقافي التي تتطلبها العولمة الرأسمالية.
كل يوم يمر، يزيدنا قناعة بوحشية الرأسمالية التي باتت تنزع من الأذهان حتى إمكانية التفكير بنظام بديل، بما لها من قدرة على تغييب تناقضاتها، وقدرة على غرسها لنموذجها في الأذهان المتناهية، وجعلها هذا النموذج متأصلا ومستمر القدم؛ حيث تتقولب فيها مشكلة القدر التاريخي للإنسان؛ فعالم المدنية الحديثة (وهو ما لا ينبغي على المرء أن يرفضه أو يتخلى عنه، كثمرة لتطور وتقدم العقل العلمي) أغفل قضايا إشكالية برزت كضريبة للحداثة، وأخلت بالتوازن الروحي والمادي، وباتت تقتل أي إمكانية متاحة ل روح الحوار والتفاهم الذي استهدفته هرمينوطيقا غادامير.. فهل لروح الحوار والتفاهم هذه، أن تأخذ مكانها الفعلي في الوجود الإنساني من أجل الوصول إلى أرضية مشتركة للفهم والتفسير...؟!.