صعدنا الى باص ركاب عسكري، خمسة طلاب اردنيون وطالبان ليبيان وثلاث طلاب افارقة مع مجموعة اخرى من ضباط وافراد الجيش اليوناني. تحرك الباص من اثينا متجها الى عاصمة الشمال (مدينة سالونيك)، كان الباص يمشي تارة في غابات جميلة، وتارة في سهول خضراء، واحيانا يمشي على شاطىء البحر لمسافات طويلة تشعر احيانا بان عجلات الباص قد لامست مياه البحر، وصلنا بعد سبع ساعات الى معسكر في مدخل مدينة سالونيك. نزلنا من الباص الكبير وكل واحد منا يحمل حقيبته وقد انهكنا السفر، كان امامنا باص صغير يقف على بابه تلميذ طب يلبس اللباس العسكري ويضع على كتفه رقم خمس، كان هذا التلميذ قمة في اللياقة البدنية والقيافة العسكرية، وله وجه اغريقي ابدع الخالق صنعه، كان جادا معنا وهو يخاطبنا باللغة اليونانية ان نصعد الى الباص الصغير لانه سيأخذنا الى الكلية العسكرية الداخلية التي سندرس فيها الطب لمدة ست سنوات. اسئلة كثيرة تبادرت الى ذهني، اولها متى سأصبح مثل هذا التلميذ بوثوقه بنفسه وجديته وفي السنة الخامسة، ان الجدية التي كانت مرسومة على وجه هذا الطالب والعسكرية القاسية اوجلت قلوبنا. صعدنا الى الباص الصغير واغلق السائق الباب وتحرك بنا الى الكلية العسكرية. بعد ان خرج الباص من ذلك المعسكر، وقف ذلك التلميذ وادار وجهه نحونا ورأينا فيه وجها اخر ترتسم عليه ابتسامة حب وحنان وعطف من اخ كبير الى اخوة اصغر هم في بداية طريقهم في هذه الكلية. والمفاجأة كانت ان خاطبنا بلغة عربية حبيبة على قلوبنا ومسامعنا، ونحن في الغرفة معرفا على نفسه بأنه تلميذ طب سنة خامسة عادل حداد وانه يرحب بنا ويتمنى لنا التوفيق والنجاح وطيب الاقامة في سالونيك، وانه هو وزملاؤه الاردنيون في الكلية سيساعدوننا ويقدمون لنا العون والنصح. رددنا في انفسنا انه طالب اردني وليس يونانيا، كان تلميذ الطب عادل حداد من المتفوقين في هذه الكلية العسكرية، حيث ارسلت قيادة الجيش اليوناني بتنسيب من قائد هذه الكلية رسالة الى قائد الجيش الاردني آنذاك الشريف حسين رحمه الله تهنىء القوات المسلحة الاردنية بهذا الطالب المتفوق والمتميز وصاحب الاخلاق العالية. الدكتور عادل حداد قدم خدماته الطبية الجليلة لمنتسبي القوات المسلحة عبر عقود طويلة، وكان من اشهر اطباء الجراحة والتجميل في الاردن، ولقد اشرف على ادخال وحدة الحروق في مركز فرح للتأهيل في مدينة الحسين الطبية التي لا مثيل لها في الشرق الاوسط. الدكتور عادل حداد من الذين يدخلون القلب من اول مرة تراهم او تحادثهم فتطمئن له ولا تملك الا ان تحبه، هكذا عندما رآه المغفور له جلالة الملك الحسين رحمه الله احبه وقربه اليه. كان هناك نظام الخدمة المدنية للاطباء في القوات المسلحة ولذلك وصل الدكتور عادل حداد الى رتبة فريق مدني.. ولان الملك احبه امر بان تعاد له الرتبة العسكرية الفعلية وليس المدنية وهو بذلك يكون اول طبيب اردني حظي بهذا الشرف. تقاعد الفريق الدكتور عادل حداد عزيزا مكرما وبعد فترة قصيرة عينه جلالة الملك عبدالله المعظم عضوا في مجلس الاعيان تكريما لهذه الشخصية الاردنية المحبوبة. اصيب الباشا عادل حداد بمرض السرطان ولم يمهله طويلا فانتقل الى رحمته تعالى. عندما رأيته اخر مرة ذكرته عندما استقبلنا وهو في السنة الخامسة في الكلية العسكرية، فرد علي بابتسامته الجميلة: هذه حال الدنيا يا هشام. رحم الله العين الفريق الدكتور عادل حداد وألهم زوجته وابناءه واهله وذويه واصدقاءه الصبر والسلوان. الى جنة الخلد يا باشا يا ابا بتول، وستبقى حيا في قلوب الذين احبوك وفي قلوب آلاف المرضى الذين عالجتهم بأمانة وإخلاص.
