ترجمة تيسير ابو شومر - بُعيد ولادة فن السينما بسنوات قليلة، اتجه صانعو الافلام السينمائية في اميركا الى القارة السوداء (افريقيا) واستمرت على هذا المنوال الى ان لاقى فيلم ''طرزان'' نجاحاً كبيراً، الامر الذي دفع صانعيه الى عمل اجزاء اخرى استثماراً لنجاح الجزء الاول. واستمرت هوليود في تصوير بعض افلام المغامرات في افريقيا حيث الادغال والغابات والحيوانات المختلفة مما يجعل المشاهد مشدوداً لكل عناصر المشهد السينمائي هنالك، الى ان اصبحت سلسلة افلام ''طرزان'' اسطورة سينمائية راسخة في اذهان المشاهدين، ولم يتجاوز الهدف من التصوير في هذه القارة الا طبيعتها الجغرافية والبيئية والحيوانات النادرة الوجود الا فيها.
ولكن منذ مطلع الثمانينيات من القرن الماضي اطلت السياسة برأسها في كثير من الاعمال السينمائية التي صورت في افريقيا، ولنتناول انموذجاً او اثنين انجزا منذ عام ونصف تقريباً وهما فيلما ''الماس الدموي'' من اخراج ادوارد زويك وتمثيل النجم ليوناردو دي كابريو، والفيلم الثاني ''آخر ملوك اسكتلندا'' لمخرجه كيفن ماكدونالد وتمثيل فورست ويبتكر والذي نال عن دوره جائزة اوسكار لافضل ممثل.
والسؤال الملح الان هو لماذا هذا الاهتمام المفاجئ لهذا الجزء من العالم على الرغم من عدم تقبل افريقيا للثقافة الغربية لاكثر من ستة عقود، اما في الوقت الراهن فقد بدأ سكان هذه القارة باستيعاب بعض المفاهيم والقيم الغربية.
منذ مطلع ستينيات القرن الماضي تم تصوير العديد من الافلام السينمائية هناك ولكنها كانت بمضمونها عبارة عن رحلات سفاري حيث الحيوانات المفترسة ومحمياتها وقصص مختلفة ومكررة بنفس الوقت لاصطياد حيوانات نادرة الوجود، وجاءت النقلة المفاجئة بافلام تناولت الصراع بين الميليشيات المختلفة وخاصة الاطفال المجندين والمسلحين، والعمل هناك مغامرة محفوفة بالمخاطر. ومن امثلة ذلك فيلم ''مناجم الملك سليمان'' للمخرج روبرت ستيفنسون عام 1937 وهو فيلم من انتاج بريطاني ويقع في 80 دقيقة وبسبب النجاح الكبير الذي شهده هذا الفيلم قام المخرج الامريكي كومبتون بينيت بانجاز فيلم اعادة لنفس الفيلم وبنفس العنوان عام 1950، وكذلك الامر حصل عام 1985 والذي اخرجه ج.بي تومبسون ومن الناحية الفنية جاء فيلم المخرج وكمبتون عام 1950 افضل من سابقه ولاحقه، الا ان القاسم المشترك لجميع هذه الأعمال هي مجموعة من العناصر التي تشكل فيلماً فهناك حيث الطبيعية والارض الشاسعة الأمر الذي يدفع الباحثين عن الكنوز الدفينة بل واكثر من ذلك تجدهم يدخلون في دائرة الصراعات للسيطرة على هذه الارض. وهذه ليست المرة الاولى التي تسبق فيه السينما السياسة والامثلة كثيرة عن افلام تنبأت باحداث تحققت فيما بعد، مثل فيلم ''خارج السيطرة'' الذي ارتكز على وباء ايبولا المعدي والذي كان يحمله قرد يتواجد في زائير.. وكذلك الامر في الفيلم الكوميدي ''حرك ذيل الكلب'' مع روبرت دي نيرو وداستن هوفمان والذي طرح قضية تورط رئيس الولايات المتحدة بعلاقة جنسية مع فتاة وبعد ان افتضح امر العلاقة هذه اصبحت حديث الرأي العام العالمي، فلجأ الرئيس الى مستشار له ليفاديه هذه الفضيحة، وكان له ذلك اذ اتفق مستشار الرئيس مع احد منتجي السينما ليقوم كلاهما باختلاق قضية امنية في (البانيا) حيث يوجد مواطنوها المسلمون والذين يقومون بالتخطيط لعمل ارهابي في الولايات المتحدة، ومن المعروف بعد عرض هذا الفيلم بعام ونصف حصلت قضية العلاقة ما بين الرئيس كلينتون والمتدربة مونيكا.. وابانها قامت الولايات المتحدة بعملية (ثعلب الصحراء) حيث قامت بضرب اهداف عراقية ما سبق من امثلة على قدرة السينما في التبنؤ، وهذا ما يفسر ظاهرة اتجاه فناني هوليوود الى القارة السوداء وبافلام ليست بريئة النوايا كما في سلسلة طرزان وما هي على شاكلته.
لذلك بدأ الغرب في التنافس للسيطرة على هذه الارض بشتى الوسائل وتحت مسميات مختلفة ولكنها في حقيقة الامر إلا استعمارا كولونياليا استيطانيا وتحت شعارات كاذبة مثل الادعاء بانهم يطالبون مساواتهم مع سكان هذا البلد او ذاك الاصليين، وتجلى هذا الطرح في فيلم المخرج جون هيوستن ''الملكة الافريقية'' عام 1951 وفيلم ''موغامبو'' لجون فورد عام 1953، اضافة الى فيلم ''هاتاري'' لهوارد هوكس عام 1962، وفي عقد الثمانينيات اخرج الفرنسي المعروف كلود ليلوش فيلم ''سيرة حياة طفل فاسد'' والامريكي سيدني بولاك في فيلم ''خارج افريقيا''.
الا ان فرنسا استمرت كما هي عادتها في استحضار عظمة امبراطوريتها القديمة وتوضح ذلك عبر افلام مثل: ''قلعة ساغان'' للفرنسي آلان كورنو عام 1948 وفيلم '' الانتصار بالغناء'' لجان - جاك آنو عام 1976 اضافة الى افلام الكساندر اركادي عن افريقيا الشمالية، وعلى الرغم من ضبابية معظم المشاهد في هذه الافلام ولكن التحرك المفاجئ آنذاك للنقاد السينمائيين ونشرهم مقالات تتناول اهمالهم وعدم السماح لسكان افريقيا الاصليين بالعمل مع المخرجين الذين يأتون الى بلادهم افريقيا، وكذلك عدم تبنيهم لمواهب لفنانين افارقة، وقد كان لهذه الضغوط التي مورست على صناع الاقلام السينمائية ان استجابت لها، الأمر الذي اظهر بعد سنوات حالة توازن في المستوى الفني مع اولئك الوافدين الى بلادهم.
والغريب في الموضوع ان يجد المرء فنانين كباراً انجزوا افلاماً لم تتناول المشاكل الحقيقية التي تواجهها القارة السوداء مثل فيلم المخرج الامريكي مايكل ابتيد ''غوريلات في الضباب'' عام 1988، وفيلم غريستوك ''للمخرج البريطاني الاصل هيو هدسون عام 1984 وتمر السنون وها هي افريقيا حيث لا نجد شيئاً يذكر فيها - سينمائياً - عن المجاعة، الامراض، الابادة الجماعية وميليشيات عديدة في معارك من شارع لآخر ومن زقاق لآخر، ففي العام 1999 قام المخرج تيرتيبلوب الامريكي باخراج فيلم ''غريزة'' ولم يتعرض فيه عن الابادة الجماعية التي جرت في رواندا ابان العمل في فيلمه هناك!!
ولكننا - وللأسف - نستطيع ان نجد بعض الضمائر المستيقظة، ففي عام 1948 استنفرت فرقة غنائية بريطانية وقدمت اغاني عن المجاعة في اثيوبيا، وتبعتها في الولايات المتحدة الامريكية باغنية شهيرة شارك فيها العديد من الفنانين وهي ''نحن العالم'' والاغنية تمت كتابتها عن الواقع السائد هناك، وقد نالت الاغنية شهرة كبيرة الامر الذي شجع عدداً من السينمائيين في العمل على محاكاة هذه الاغنيات ولكن سينمائياً . وكانت البداية بفيلم ''صرخة الحرية'' للمخرج البريطاني ريتشارد ادبنوره، عام 1987، و ''فصل ابيض جاف'' 1989 وقد تناول هذان الفيلمان التفرقة العنصرية السائدة في هذا العالم.
ومع بداية العام 2000 بدأت السينما في القارة السوداء تتأرجح بصورتها الى ان وصلت الى درجة الانقلاب في المضامين، يقول المنتج السينمائي الفرنسي (فيليب لانغليه)'' ''كانت هذه القارة الاخيرة التي يتم غزوها من قبل السينما الاميركية وها هي قد ركبت الموجة''.
ففي العام 1993 دخلت القوات المسلحة الاميركية الصومال وكان هدفها المعلن هو القضاء على الميليشيات المتمردة التي تهدف الى تجويع وترويع السكان الآمنين، ولتأتي السينما الآن بدورها لتعزيز الهدف من التواجد الاميركي في الصومال وهو المهمة ''الانسانية''!!.
فجاء المخرج (رولي سكوت) عام 2001 وانجز فيلماً بعنوان ''سقوط الصقر الاسود'' وليتبعه فيلم ''دموع الشمس'' عام 2003 حيث يقوم بطل الفيلم بروس ويليس بانقاذ طبيبة (مونيكا بيلوتشي) والتي ترفض العودة الى وطنها وآثرت البقاء عند المرضى في نيجيريا!.
ولا بد من الاشارة الى فيلم مختلف ومتميز وهو فيلم ''صحارى'' من بطولة ماثيو ماكونتي وبينيلوب كروز عام 2005، وللمرة الاولى نشاهد فيلماً يفضح الدولة الاقوى في العالم والتي تلقي بنفاياتها التي تحتوي على نشاط اشعاعي في عدد من البلدان الافريقية.
وراهناً يستخدم تعبير ''الحداثة في السينما'' عند الفنانين الافارقة، أي ان العمل في السينما اصبح افضل مما سبق بالنسبة لهم حيث بدأوا يطرحون شروطاً لكل طاقم سينمائي غربي يريد تصوير فيلم سينمائي عندهم.
ففيلم ''الماس الدموي'' هنالك دور سيسند للبطل دي كابريو وهو ممثل افريقي، وقد تم تصوير الفيلم في (سييرا ليوني) رغم المشقة والانهاك لطاقم العمل الفني الذي اعتاد العمل داخل الاستوديوهات، وحيث قام العديد من طاقم الفيلم بتقديم الهدايا والمال لاحدى القبائل الافريقية ليوفروا لهم الامن اثناء التصوير، ويعلق مخرج الفيلم ادوارد زويك قائلا'' ان ما حدث لنا من تعب وارهاق وارتباك اثناء العمل هناك اصبح الحديث السائد عند كثير من الاصدقاء والزملاء الذين يعملون في السينما لذلك استطيع القول ان اسلوبنا في العمل الذي اتبعناه اضحى نموذجاً يحتذى لغيري من الفنانين فمثلاً فيلم ''البستنجي'' قام طاقم العمل فيه بترميم القرية التي صوروا فيها عددا من مشاهد الفيلم وبعد انتهاء التصوير اصبحت مأوى وسكناً جيداً لعدة عائلات كانت تحلم بالعيش فيها'' فها هو المخرج تيري جورج قام بتصوير فيلم ''فندق رواندا'' مع النجم نيك نولت، وتبعه المخرج راوول بيك بفيلم ''احياناً في شهر ابريل'' وركب الموجة المخرج المتميز مايكل كيبتون جونز بفيلمه ''اصطياد الكلاب'' ولم يتوقف الامر عند الاميركيين بل تبعهم مخرجون افارقة من القارة السوداء نفسها حيث قام المخرج والكاتب الافريقي والذي استفاد من اسلوب المعالجة الاميركية في السينما (ايريك فالي) بانجاز عمليتين جرى تصويرهما في ناميبيا وهما ''هيمالايا'' و''طفولة زعيم'' وبعد ذلك باعوام قليلة اخرج فيلم ''حلبة الرقص'' والذي تناول فيه بجرأة ظاهرة تجنيد الاطفال والباحثين عن الكنوز الدفينة في ناميبيا.
اما المخرج النيجيري (نيوتن ارواكا) فقدم فيلمه الأخير ''عيزرا'' وتناول فيه ايضاً قضية تجنيد الاطفال لحساب زعماء الحرب المقتتلين، وذهب المخرج بفيلمه هذا الى اميركا متجهاً الى مهرجان (سندانس) الذي اسسه الفنان الشهير روبرت ردفورد حيث لاقى استحسان النقاد والمشاهدين.
الا ان المتابع يرى ان الكثير من الافلام التي صورت في هذه القارة تناولت المواضيع ذاتها.. المجاعة.. الحروب الاهلية.. التفرقة العنصرية بحيث اصبحت كليشيه وهذا هو الوقوع بالمحظور سينمائياً، فقد اصبحت افريقيا على الشاشة البيضاء مرادفاً للشقاء والمصائب والقسوة على مستوى العالم، ويعلق المخرج الافريقي المالي قائلا: ما يجعلني القي باللائمة على ثقافة الغرب بشتى اشكالها، هو انهم ينظرون الينا كحشرات.
واما فيلم ''سيد الحرب'' لمخرجه اندرو نيكول وبطولة النجم نيكولاس كيج فيبدأ فيلمه بمشهد يتفاوض فيه طرفان على صفقة اسلحة، وليبقى الفيلم منذ بدايته وحتى نهايته متناولاً قضية تهريب السلاح والاتجار بها بل ويذهب ابعد من ذلك من خلال ايحاءات صريحة بان هنالك قوة كبيرة من الواضح انها اميركا - مهمتها اذكاء النزاعات والحروب الاهلية لتعود بالفائدة الاقتصادية من خلال تصنيع الاسلحة وبيعها الى جانب فائدة لا تقل اهميتها عن الاولى وهي ان يقتتل ''اعداء اميركا'' الى الدرجة التي لا تمكنهم من تشكيل تهديد مستقبلي للقوة الكبرى، ويفاجئنا الفيلم بادعائه ان بعض الميليشيات تمتلك مصانع للذخيرة بمساعدة روسية!.
وهنالك افلام تناولت تجارة الرقيق مثل فيلم المخرج المعروف ستيفن سبيليرغ ''اميستاد عام 1997 ، ومن قبله المخرج الفرنسي بيرنارد جيرودو بفيلمه ''نزوات لاحد الانهار'' عام 1995 ولكن افضل واجمل فيلم تطرق للقضايا المختلفة والمتشابكة في افريقيا هو فيلم ''ابناء البلد'' لمخرجه المغاربي رشيد بوشارب والذي يتناول فيلمه حال الافارقة الشماليين وتحديدا عند اربعة جنود شمال افريقيين شاركوا في تحرير فرنسا من الاحتلال النازي ، وتأتي اهمية هذا الفيلم لموضوعيته غير المسبوقة خاصة ان السينما الفرنسية تجاهلت فنانين من اصول عربية ولم تتح لهم الفرصة بالعمل معهم هذا الى جانب اظهارهم كأناس فاسدين او انهم وباء خطير على الحضارة الغربية، والرسالة التي يريد فيلم ''ابناء البلد'' ايصالها للجمهور هي الدعوة الى عدم التشاؤم وان العدالة الانسانية قادمة لا محالة. ويعلق الناقد السينمائي الفرنسي ميشيل ريبشيون : ان فيلم المخرج بوشارب قد وضع الاساس وفسح المجال واتاح الفرصة لكثير من السينمائيين الشبان ليعبروا عن وجهات نظرهم من خلال السينما''.
عن مجلة (ستوديو) الفرنسية