فـي مديح الملح - هاشم غرايبة

فـي مديح الملح - هاشم غرايبة

أول ما عرفت الملح، كان يأتينا محملا على جمل يطوف صاحبه أرجاء حوارة وهو ينادي على بضاعته: ملح. ملح. يا شاري الملح.. ثم ينيخ جمله في ظل المسجد، ويبدأ الناس يكتالون الملح مقابل القمح. الملح والقمح متلازمان في البركة فقد ارتبط الخبز بالملح رباطاً مقدسا، ويرش الملح والقمح على العريسين من اجل البركة.. يقول المثل الشعبي: صار بيننا خبز وملح، كناية عن علاقة وثيقة ترتقي الى قرابة الدم. . وقالت العرب: مِلْحُه على رُكْبتيه؛ لقليل الوفاء، أي أنه سرعان ما يتنكر لمن ''مَالحَهُ''.
وفي قريتنا إذا استقرضت الجارة ''قبضة'' ملح من جارتها ليست ملزمة بردها.. وكان الملح يبذل عن روح المرأة المتوفاة من أجل سكينة روحها، وتقية من أن تكون قد أسقطت بعض الملح على الأرض سهوا. الخبز والملح مقدسان لا يلقيان على التراب رغم شيوعهما. والعرب تحلف بالملح والماء تعظيما لهما. ويرش الماء والملح على عتبة الدار لطرد الأرواح الشريرة.
ويملح الطفل الوليد في بلادنا عبر طقس مقدس كطقس الطهور! الملح يمنح بركته للأشياء، لحم الأضاحي لا يعطى إلا مملحا، وشعير المولد النبوي الشريف ينبغي أن يخلط بالملح.. الملح متواضع يذوب بصمت، ويمنح طعمه لذة للآكلين دون أن يرى، ويبسط حمايته على مدخراتنا من الطعام بلا ضجيج، ويرفع ضغط الدم دون صخب. قال المسيح لتلاميذه: أنتم ملح الأرض. ولكن إذا فسد الملح فبماذا يملّح؟ وقال الشاعر مسلم العماني أولئك القوم ملح الأرض إن فسدت فأين هم وفساد الأرض قد قرعا الملح لا يِفسد، ويمنع الفساد: يضمد الجراح، ويطيل عمر الجلود واللحوم والخضار.. وروى ابن ماجة في سننه من حديث أنس: ''سيد أدامكم الملح''، وفي قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ''إن الله انزل أربع بركات من السماء إلى الأرض.. الحديد والنار، والماء والملح''. والملح مليح، المِلاحُ الريح التي تجري بها السفينة، وبه سمي المَلاَّحُ مَلاَّحاً، وقال غيره: سمي السَّفَّانُ مَلاَّحاً لمعالجته الماءَ المِلْحَ بإِجراء السفن فيه.
والمِلْحُ: الحُسْنُ من المَلاحة. وقد مَلُحَ يَمْلُحُ مُلُوحةً ومَلاحةً ومِلْحاً أَي حَسُنَ، فهو مَليح ومُلاحٌ ومُلاَّح.
والمُلاَّحُ أَمْلَحُ من المَليح؛ والمُلْحة والمُلَحةُ: الكلمة المَليحة. أو الخاطرة اللطيفة: نروى حديث الهوى الفتّاك في ملح كأنها الوحي في علياء سيناء وأَمْلَح: جاء بكلمة مَليحة. أَمْلَحْتَ يا فلانُ بمعنيين أَي جئت بكلمة مَلِيحة، أو أَكثرت مِلْحَ القِدْرِ. سأَل رجل آخر فقال: أُحِبُّ أَن تُمْلِحَني عند فلان أَي تُزَيِّنَني وتُطْريَني. لقد ارتبط الملح ببدء تاريخ الحياة على الكرة الأرضية، وكان الملح سلعة ثمينة منذ العصور القديمة، وكان يستبدل بالذهب، وكان الصينيون القدامى يستخدمون عملات مصنوعة من الملح في التداول، والملح كمادة ثمينة خضع طويلاً للاحتكار ولضرائب باهظة فرضت عليه، ففي فرنسا مثلاً كانت عليه ضريبة باهظة واحتكار شديد لحساب الملوك الذين كانوا يحاربون مهربيه من مكان لآخر. والملح نوعان أحدهما ملح بحري الناتج عن تبخير مياه البحر، و الثاني يعرف بالملح الاندراني والذي يوجد في مناجم على الأرض ومصدر كل الملح بما في ذلك الترسبات الملحية الموجودة تحت سطح الأرض هو ''الأجاج'' أي المياه المالحة من البحار والبرك والأجسام المائية الأخرى، والواقع أن ترسبات الملح الموجودة الآن في الصحاري والجبال قد تكونت تحت الأرض بتبخر مياه البحر منذ ملايين السنين. لقد كتب ''هومير'' و''تاسيت'' و''بليني'' عن الملح وأشادوا بخصائصه وتحدثوا عن الحروب التي نشبت في سبيل الحصول على مصادر الملح، وفي رأي هيرودوت ان أول بلد عرف تجارة الملح هو ليبيا وكانت المنازل حينذاك تبنى بصخور الملح. واليوم تدرس حكومات عديدة إمكان تخزين النفايات المشعة في مناجم الملح الموجودة تحت سطح الأرض، كما توجد معظم مناجم الملح في مناطق تندر فيها الزلازل والهزات الأرضية. الملح يحمل بعضاً من سر الأبدية..