سميرة عوض - كم أود الذهاب الى البرازيل ، يقول الشاعر الاماراتي أحمد راشد ثاني الذي يميل للسفر الى أماكن لم يذهب اليها من قبل، لا يعرف فيها أحدا، ولا يعرفه فيها أحد، غريبة عنه كليا، خصوصا في الشرق الاقصى بآسيا، أو أمريكا اللاتينية، أو افريقيا وسواحلها من جهة زنجبار وما حولها.
هو صاحب قفص مدغشقر جاب أصقاع الأرض، ويعترف أن لديه فوبيا من ركوب الطائرات، ويعلن أن داخله ليس بامكانه أن يستوعب طيران كائن من حديد ويمشي في السماء!!.
وأنا أكتب هذه السطور أسمع رقصات الأمواج في قفص جسدي الصدري يقول الشاعر أحمد راشد ثاني المسكون بمدينته الاولى خورفكان، معلنا أن المكان المتخيل، يختلف عن المكان الواقعي ، فثمة انزياح ضروري هنا يقتضيه الحلم أولاً، ثم أن العلاقة بالمكان، مكانك الاول، خاضع لكثير من التحولات، متسائلا: هل كنت حقاً مخنوقاً برحابة بين تلك الجبال التي تحيط بساحل خورفكان المدهش، كما لو أنها سرطعون بحري عملاق يمسك برقبة الساحل الفاتنة .
وكلما تذكر الشاعر الخرطوم واديس ابابا، أو سمع باسمهما، تذكر صديقه المحترق، والبحار اليمني وصديقة المسبح، وبوذا وهرمان هيسه، والعكس.
مكانك على الورق
شهدت مدينة خور فكان أول صرخاتك.. ماذا عنها وعن طفولتك فيها؟
في السنين الاخيرة نشرت مقالات في الصحف تتعلق بطفولتي في خورفكان، كما كتبت قصائد بنيت علاقتها بالمكان كما في مجموعة يأتي الليل ويأخذني (والصادرة عن دار النهضة العربية في بيروت). مكانك على الورق، مكانك المتخيل، يختلف عن المكان الواقعي ، ثمة انزياح ضروري هنا يقتضيه الحلم أولاً، ثم أن العلاقة بالمكان، مكانك الاول، خاضع لكثير من التحولات، انك كل مرة تقيم علاقة مع مكانك الأول مختلفة. هذا التحول مدهش، لكن رغم ذلك تلفت ذاكرتي دائما جملة كأنها لابن خلدون تقول بأن التاريخ جغرافية متحركة، والجغرافيا تاريخ ساكن . المكان، مكاني ساكنا ومتحركاً يشغل روحي دائماً. وكما قال لي احد الاصدقاء منذ وقت قريب، فأنا محلي بشكل ما.
في طفولتي عدة آبار
بئر طفولتك الأولى كيف وظفته في إبداعك؟
لا أعرف كيف أرد على سؤالك الملتبس هذا. لكنني كثيراً ما أفكر بتلك الابار المفتوحة في البحر، أو تلك الطويلة على قمم الجبال، أو تلك التائهة في الصحراء. حقاً أنا من أسرة بحرية ومزارعة، ولكن بدويتها لا تحتاج الى شرح. إن البداوة في البدء هي البحث عن بئر. هل فهمت سؤالك حقا؟ لا أظن. بل في طفولتي عدة آبار. أو بإمكاننا أن نفكر بأن تحت خطوة كل طفل، في طفولتي، (او ربما في طفولة الجميع) بئرا.
علاقة شائكة ومعقدة
تتقصد أعتماد المكان في عناوين دواوينك كما في الأرض تتكلم ، قفص مدغشقر هل يعكس هذا حميمية علاقتك بالمكان؟.
لا أعتقد بأن علاقتي بالمكان حميمية، أعتقد انها شائكة ومعقدة.
إبن لمصادفة بحرية
كيف هو البحر كمكان بالنسبة لك، وأنت ابنه؟
البحر!!! ماذا بأمكاني أن أقول لك عن البحر... باختصار.... جاء أبي البحار من دبي وتزوج أمي الفلاحة... وجدي جاء من البحر. انا فضيحة تلتبس بتلك الفضيحة التي عالجها جورج شحادة في مهاجر برسبان (الفضيحة هنا بالمعنى الوجودي كما أرجو ان يفهم القارئ).
من جانب آخر، وأنا كإبن لمصادفة بحرية كهذه، لا أدري هل كنت حقاً مخنوقاً برحابة بين تلك الجبال التي تحيط بساحل خورفكان المدهش، كما لو أنها سرطعون بحري عملاق يمسك برقبة الساحل الفاتنة. لكن الأهم من كل هذا أنني قضيت طفولتي، أغلب طفولتي، وأنا منكب على ذلك الساحل، أقيم من طين أمواجه تماثيل احلامي. والان، حتى الان، وانا أكتب هذه السطور أسمع رقصات الأمواج في قفص جسدي الصدري.
لا أعذب من قطرة سراب
وكيف هي الصحراء وأنت ابنها أيضا؟
الاسئلة العمومية مثل هذا السؤال، والذي قبله، عادة ما يحتار المرء في الرد عليها، لكن.. وأنا انوي الرد خطر في بالي الضب هذا الحيوان الصحراوي الأسطوري. تعرفين أن الناس في الجزيرة العربية والخليج- وأغلبهم بدو سابقون- عاشوا مجاعة كبرى وطواعين قبل الهطول العجيب للنفط. وهم مرتحلون طبعاً وثقافة، (لانه قليل من يفهم بأن الطبع ليس الا الثقافة المستقرة والكامنة)، وكان لهم الضب من أندر وألذ اللحوم التي يجدونها مجاعة. فكيف كان يصيد البدو الضب؟. بالماء، بسكب الماء في جحره، الضب الحيوان الصحراوي الصريح يكره الماء. لا يطيق الماء، وأظنه وهو يحفر جحره في التلال المستعرة والمكفهرة للربع الخالي، وبأبواب ذلك الجحر المتعددة.
أظنه يفكر، عكس ما يبدو على الصحراء، يفكر بأن الماء يحاصره من كل جهة.
تفكير هذه الجنية يشد انتباهي. فعلاً كل حبة رمل مستعرة في الصحراء تنطوي على قطرة ماء. خذي السراب على سبيل المثال، الان كثير من السيارات في مدننا الحديثة، كثير من الأبراج العملاقة تغرق في مجرد سراب. بل أكثر من هذا، ألم تتساءلي يوماً من يروي العطش اكثر: قطرة الماء ام قطرة من السراب؟ قد يهتف القطيع الماء، لكننا حقاً، وكبشر، نجد، في اللحظات المحلومة والحية أحلى ولا أعذب من قطرة سراب.
..تفتح الحياة عيونها عليّ
عندما تسمع بعبارة أماكن لها في القلب أماكن ما هو المكان الذي يخطر ببالك؟
يخطر بيتي، البيت الذي اسكن فيه، البيت الذي اغلق بابه عليّ وأمشي عارياً في رأسي. في الخارج، لطالما شعرت بأنني مهدد، عندما أجلس في البيت تجلس معي نفسي. كثيراً ما كنت في الخارج. لقد تعبت من الخارج.
اضع كأسي في البيت، على الطاولة، فتفتح الحياة عيونها عليّ.
بين قمرoبانتa و أديس أبابا
هل من ارتباط بين الأماكن والأشخاص..في الذاكرة؟
هذا السؤال شائك أيضا، سأهرب عنه ومنه، وأوري لك هذه الحكاية: في سنة ما من الثمانينات كنت أعمل صحفياً في جريدة الخليج بالشارقة، وحدث أن قررت مع صديق سوداني الذهاب الى الخرطوم عبر الخطوط الجوية الاثيوبية، وقتها كانت الخرطوم مليئة بعاصفة من الأتربة و ديمقراطية على الطريقة الافريقية. اسكنني ذلك الصديق في بيت اهله الكبير. في الليل يحتشد على الأسرة كثير من الأشخاص ومن مختلف الأحزاب: يحضرون على تلك الاسرّة، ويتحدثون ويختفون كما يحضرون بينما قمر بانت ، وهو حي معروف في أم درمان، واقف على رأس الجميع، وعلى رأس الديمقراطية كذلك.
لاحقاً احترق صديقي، الذي أسكنني في بيت أهله في بانت مع شقته في دبي. اما أنا وبعدما ملأت عواصف الخرطوم عيني بالرمال قررت العروج على أديس ابابا قبل تسليم روحي للعمل في الشارقة.
اديس أبابا المدينة الفتانة
وتعرفت هناك على بحار يمني يمضغ القات، وكاد أن يجبرني على تدوين سيرته البحرية المملة.وتعرفت على انثى كنا نلتقي في النهار ومرة كنا في بيت شعبي فرأيت طفلا ممتلئا وقصيراً يشبه بوذا (كنت توي قد قرأت رواية سدهارتا لهرمان هيسه). من هنا، واذا ما فهمت سؤالك حقاً فإنني كلما تذكرت الخرطوم واديس ابابا، كلما سمعت باسمها، اتذكر صديقي المحترق، والبحار اليمني وصديقة المسبح، وبوذا وهرمان هيسه، والعكس.
شممتها بعمق..حتى جعت.
هنالك أماكن تمر بها، فتشم بها رائحة ماضيك.. كيف تربطك الروائح بالأمكنة ؟
سأقول لك مثلا: فلقد كنت قبل شهور في العاصمة الجزائر، وكنت أمشي في شارع رئيسي قرب البحر، أظنه شارع ابن مهيدي، قرب ميدان الاستاذ عبدالقادر الجزائري. أتذكر بأنني كنت أمشي في الصباح، وكانت تفوح من محلات عدة رائحة الخبز والكعك الطازج. ولقد شممت هذه الرائحة بعمق، أتذكر أنني شممتها بعمق، حتى جعت.
أهيم بمدينة أسمها بابل
بعض الأماكن نسمع بها أو نقرأ عنها فنتيم بها، هل حدث هذا معك؟
بابل. انا أهيم بمدينة متخيلة وغير متخيلة في نفس الان أسمها بابل.
أهيم باسمها، وأهيم باللامتخيل منها، قصدي بالاثري والتاريخي، وأهيم بالمتخيل، فمن على برجها الذي أوصل الشياطين الى مرتبة في الهواء بامكانهم فيها الاطلاع على اسرار الالهة، تفرقت اللغات، وصار لا يمكنني الحديث مع شقيقي الروسي مثلا، كما أهيم بابارها التي دفن فيها السحرة، والخيميائون، سطورهم الاولى.
متى أعود الى البيت؟.
ثمة أماكن تنادينا، فما هي الأماكن التي تعتبرها الأكثر قربا ولماذا؟.
المكان الأكثر قربا هو البيت. سؤالي الدائم: متى أعود الى البيت؟.
رحم أمهاتنا جنة كل شخص
ثمة أماكن نهواها بالفطرة ما هو مكانك الفطري؟
الفطرة : هذه المفردة لا أفهمها على الإطلاق ب الفطرة الطبيعة؟ لا أدري. لكن اذا ما كان يقصد ب الفطري الطبيعي فإن المكان الذي نهوى العودة اليه دائما، و بالفطرة ، هو رحم أمهاتنا، جنة كل شخص، حيث أول كأس نشربها وكانت من الدم، وحيث أكلنا عبر الشرايين، خاصة، ومما يلهب هوانا الى العودة الى ذلك المكان ، هو أن بابه قد أوصد دوننا أو بعدنا، وكليا... هل هذا هو الفطري ؟ ما رأيك؟ لا أدري.
البيت.
ما المكان الذي تحبه في هذا العالم وله في قلبك مساحة أكبر؟.
وسط مدينة عمان
سبق وأن زرت الأردن فما المكان الذي أحببته فيها، ترك أثرا في قلبك/ روحك/ ابداعك؟ ولماذا؟
اماكن ذهبت إليها عدة مرات مع أصدقاء تقع في طوابق علوية وأمامها ما يشبه المشربيات، وتطل على وسط مدينة عمان، ومطعم نذهب اليه، كنا في أواخر الليل، ويقع أيضا في سوق المدينة القديم، حيث تأكل مع الفجر ما لذ وطاب من المأكولات الشعبية... وحالات كثيرة .
أحب السفر وأخاف منه
المكان الذي تحلم بزيارته ولم تزره بعد؟
دائما كنت أحب السفر وأخاف من السفر. لا أخاف من السفر عموما وانما من ركوب الطائرة. لديَّ فوبيا قوية من ركوب الطائرات فداخلي الان ليس بامكانه أن يستوعب امكانية ان يطير كائن من حديد ويمشي في السماء.
وهذا الرعب يحدث لي في كل مرة استقل فيها طائرة، بالرغم من انني وفي حياتي القصيرة هذه طرت عشرات المرات، لهذا فأنا أحاول دائما الاستعداد الجيد لمقاومة هذا الفوبيا أن حان وقت السفر... ولكنه نظرا لكل هذا صرت أتردد كثيرا في السفر الى أي مكان، كما كان أمري في السابق، الان صرت أميل للسفر الى أماكن لم اذهب اليها من قبل، لا أعرف فيها أحدا ولا يعرفني احد، أماكن غريبة عني كليا، خصوصا في الشرق الاقصى بآسيا، أو أمريكا اللاتينية (كم أود الذهاب الى البرازيل مثلا)، أو افريقيا، سواحل افريقيا من جهة زنجبار وما حولها، على الأقل.
مقاطع من السيرة
يعد الكاتب والباحث الاماراتي احمد راشد ثاني صوت شعري وأحد أهم رموز الكتابة الشعرية في الإمارات والخليج العربي، ولد في مدينة خور فكان العام 1962 بإمارة الشارقة . بدأ صوته الشعري يزهو على الساحة الإماراتية وهو لم يتجاوز العشرين من عمره بعد، كتب قصيدة التفعيلة ثم انتقل لقصيدة النثر، كما كتب الشعر الشعبي والنصوص المسرحية ثم تفرغ للبحث الميداني والمسح الشعبي الثقافي، وإلى جانب ذلك مارس العمل الصحافي من خلال كتاباته في المجلات والصحف اليومية.
صدر له : سبع قصائد عام 1981، ، هذا كل ما لدي الصادرة عام 1988، حيث الكل الصادرة عام 1995، ومسرحية شعرية بعنوان الأرض تتكلم ، قفص مدغشقر، القصص الشعبية، حصاة الصبر 15 حكاية من الإمارات عام 2002، إلعب .. وقول الستر عام 2002، يأتي الليل وياخذني عام 2007، كما صدر له عن ابن ظاهر الذي فاز بجائزة العويس الثقافية.
مقاطع من يأتي الليل ويأخذني
وحينما تفرّقت الغابة بلا ظلال.
وخُيّل للنبع أن الأرض واسعة.
حينها أغلق الهواء ركبتيه.
في وجه البحر.
وأنتج أقفاصاً للصخور.
ومبكىً للأمواج .
فتحت منزل الغرفة.
أنزلت السقف.
وبدأت في تصفح الجدران .
الملاك الذي في الحمامة أخافها.
فطارت .
الأفق.
وهو يُدحرج البلدة.
كي تسقط في الغروب .