ذاكرة تتجوّل في شارع الرشيد

ذاكرة تتجوّل في شارع الرشيد

هدية حسين

نعم يا أمي .
رأيتُ بغداد كما لم أرها من قبل.. دارت الطائرة حول أسوارها العجيبة قبل أن تحط بصخب رهيب.. لم أحمل معي أية حقيبة، ولم يفتشني أحد.. ركبت سيارة أجرة انطلقت بسرعة البرق، لم يكلمني سائقها ولم يسألني عن وجهتي، أنا الذي قلت له: ساحة الميدان.
كان يختلس النظر إليّ من حين لآخر من خلال المرآة وأنا مسترخ على المقعد الخلفي.. رجل أشيب، مع أن ملامحه لا تدل على أنه غادر العقد الثالث من العمر.. وحين توقفت السيارة في ساحة الميدان نطق أخيراً: تفضل .
وقفتُ في الساحة، ظهري الى المبنى القديم لوزارة الدفاع، عند المدخل المؤدي الى شارع الرشيد، وبروح تبحث عن أصل حكاياته دخلته.. روائح غريبة ورطبة لفحتني، روائح كأنها قادمة من عمق أيامه الغابرة..كان الى يميني مقهى(كوكب الشرق).. نعم يا أمي، ما زالت السيدة تصدح بأغانيها هناك وعشاقها يتمايلون طرباً.. مررت بالمقاهي جميعها، ما تزال تحتفظ ببريق دلالها وسماوراتها ذات الطلاء البراق.. وبينما كنت أقف قبالة مقهى(حسن عجمي) كانت رائحة (كعك السيد) تضرب أنفي قادمة من الصوب الثاني للشارع، فذكرتني بمعدتي الخاوية، وقررت أن أتناول (القوزي والتمّن) في مطعم(ابن سمينة) حين أصل إليه.. كان الجو ربيعياً والمتاجر تعرض بضاعتها من وراء الزجاج الصقيل، والأغاني تصدح، وأنا أمشي مبهوراً ومفعماً بالحياة.. لم أنس شربت الحاج زبالة، وقفت أمام دكانه الصغير وشربت عصير الزبيب، أنظر الى صفوف الصور القديمة للملوك والوزراء والرؤساء وشخصيات المجتمع البغدادي، الذين تذوقوا شربته اللذيذ.. نعم يا أمي، ما يزال لذيذاً حتى هذا اليوم.
قرأت جميع اليافطات على المتاجروالدكاكين والعيادات ومكاتب المحاماة وورشات الخياطة ومعارض المعدات الرياضية واستوديوهات التصوير والمطاعم الشعبية والمخازن والفنادق ومتاجر الحلويات.. بعضها كان مشعاً بفعل ضوء النيونات، والآخر صدئاً بفعل مرور السنين عليه.
وقفت عند رأس أحد الأزقة، وتأملت وجوه البنات الخارجات من شارع النهر،حاملات أكياس مشترياتهن ومغمورات بفرح عجيب، سمعت أصوات الذين يغازلونهن فيتضاحكن أو يهمسن بكلام غير مسموع.. مضيت الى سوق الشورجة، وفكرت أن أشتري لك الحناء، لكن روائح البهارات الحريفة تهيج حساسية أنفي كما تعلمين، وبعد خطوات قليلة شاهدت بوابة السوق العربي ولم أدخله، فقد كان أصحاب البسطات وبائعو الملابس المستعملة يسدون المدخل،ويحتاج المتبضع منه أن يقوم بالتفافة طويلة لكي يصل الى هناك.. ثم فكرت أن أذهب من الزقاق الذي يجاوره الى سوق الغزل لأبتاع لك طيور الحب.. لكن.. كما تعرفين يا أمي، فأنا أكره حجر هذه الطيور الوديعة في الأقفاص.. خطرت لي فكرة شراء ببغاء، إلا أنني تذكرت أنك لا تحبين ذلك الطائر الخبيث عندما تخليت عن الببغاء التي جاء بها أبي الى البيت، بعد أن تجاوزتْ على الضيوف وأسمعتهم كلمات بذيئة.. أما القرود والأفاعي فإنها تخيفك، وأسماك الزينة تسبب لك الدوار بحركاتها السريعة.. لذلك كله يا أمي قررت مواصلة السير في شارع الرشيد..كان عليّ أن أستريح قليلاً، فرحلة الطائرة كانت متعبة، لكنني وجدت في نفسي الرغبة للمضي ورؤية كل شيء دون إحساس بأيما تعب.
نعم يا أمي بالتأكيد، مررت بكل المتاجر والأماكن التي نعرفها.. لم تزل على حالها..( أربطة البلداوي) وأحذية( زبلوق) ومطعك( أبو يونان) الشهير الذي يجاور فندق السندباد، لا أدري إن كان ما يزال يبيع الهمبرغر أم تحوّل الى صنف آخر من الطعام.. كما مررت بمحل( خياطة محمد نوشي).. نعم يا أمي هو نفسه الملحن المعروف، ولكنه ترك الخياطة بعد أن سطع نجمه.
أما متعتي الحقيقية فكانت حين دخلت شارع المتنبي.. الأرصفة مزحزمة بالكتب، والأكشاك متراصة وعامرة بالمعرفة، وما يزال الكتاب خير جليس،دكات وبسطات ومطابع، وكان( نعيم الشطري) يعلن عن افتتاح مزاده الشهير ويعرض الكتب النادرة، والشارع مكتظ بالناس من كل صنف، طلاب وأدباء وأساتذة جامعات وصعاليك وحتى أطفال.. وما تزال مكتبة( الأهلية) في مكانها، وكذلك مكتبة المثنى بغرفها الكثيرة، والنهضة، والتربية، ومكتبات عديدة أخرى تفوح من زواياها رائحة الورق والكتب.
لم أدخل مطعم( ابن سمينة) عند مدخل شارع المتنبي، فقد بهرتني العناوين وعملية البيع والشراء وأنستني الجوع.. تركت( باب القشلة) الى يميني ودلفت الى ( سوق السراي) وما تزال روائح الكتب تحيط بي في هذا السوق المتراصة دكاكينه على الجانبين، وتأملت مقهى الشابندر فخيّل لي أن السياب يجلس في إحدى زواياه يكتب شعراً لنساء لم يدخلن حياته أبداً.. ثم خرجت الى ساحة( الرصافي) تاركاً دجلة وراء ظهري.. نعم يا أمي، ما يزال الشاعر حتى اليوم رابضاً على قاعدته الأسمنتية العالية، ينظر بصمت الى الحياة وهي تتغير من حوله، أو أنه يكتب قصيدته الأخيرة التي لا يسمعها أحد سواه .
وواصلت مشواري في شارع الرشيد.. تفرجت على محلات المشغولات الفضية والمتاجر الكبيرة، ولم أدخل الأزقة التي تفضي الى أسواق الذهب والسجاد والحلي وأسواق الأقمشة، فهي كثيرة جداً وتحتاج الى أيام أخر، بل دخلت الى بناية الأسواق المركزية التي ما يزال الناس يطلقون عليها اسمها القديم( أورزدي باك) واستمتعت بالمعروضات وآخر ما استجد في عالم الموضة، وحركة المتبضعين التي لا تهدأ ، وتمتعت بالنظر الى البائعات الأنيقات.. وكان ما يزال أمامي وقت طويل حتى نهاية الشارع، لذلك واصلت تجوالي ورأيت واجهات السينمات مزينة بإعلانات الأفلام.. سينما ركس وروكسي والرشيد والوطني والخيام، والشعب التي تعلو مدخلها تماثيل مجنحة.. أما أصحاب محلات الكاسيت فكانوا يرغمون الناس على سماع الأغاني بأصوات عالية تخترق طبلة الأذن، أغنيات مضى عهدها ولكنها ما تزال رائجة، فيذكرون بوحيدة خليل وزهور حسين وداخل حسن وعبد محمد وزكية جورج وصديقة الملاية وعبد الرحمن خضر وجواد وادي وعبد الواحد جمعة ورضا علي وسورية حسين وحضيري أبو عزيز وناصر حكيم ومسعود العمارتلي وناظم الغزالي ومنيرة الهوزوز .
طبعاً يا أمي.. ليس من الحكمة أن تنتهي جولتي دون أن أدخل الى ( جقماقجي) الرفوف عامرة بالاسطوانات والراديوات ذات الماركات القديمة.. أعرف كم تحبين صوت أم كلثوم، وها أنا أشتري لك أغنيتك المفضلة( أفديه إن حفظ الهوى أو ضيّعا ) هل ما زلتِ محتفظة بكرامافون أبي؟ إذن سنسمعها معاً ونعيد أيام الألفة والبساطة ونحن نحتسي الشاي السنكين.
حين خرجت من( جقماقجي ) نظرت الى يساري حيث الطريق يأخذني الى شارع( أبو نؤاس) وتساءلت: هل أمضي الى هناك وأستمتع بأكلة السمك المسكوف على نهر دجلة؟ أم أصعد الى العمارة الشاهقة أمامي حيث المطعم التركي في آخر طوابقها ؟ أم أتجه يساراً الى ساحة التحرير وأجلس تحت نصب الحرية ؟ لم أتخذ قراري بعد حين لمست أصابعك جبيني، وسمعتك تقولين: أفديك بروحي يا ولدي.
وكنتُ على السرير، والأشياء من حولي مشوشة، وأصوات خطوات سريعة ومتداخلة تأتي من بعيد، وكل شيء معتم يا أمي.
كل شيء.. إلا قلبك أنت.... وشارع الرشيد .
* كاتية عراقية مقيمة في عمان