عدنان مدانات* - أنشأت مجموعة دول الاتحاد الأوروبي مؤسسة أُطلق عليها اسم ''يورو ميد''، تهتم بتقديم الدعم للإنتاج السينمائي في دول الشرق الأوسط، خصوصا الدول التي لا يوجد فيها أي إنتاج سينمائي. يترافق ذلك مع دعوات سخية لمخرجين ومنتجين شبان من دول الشرق الأوسط إلى مدن أوروبية مختلفة للمشاركة في ورشات عمل يتعلمون من خلالها كيف يصنعون الأفلام وكيف ينتجونها وكيف يوزعونها. ولم تكتفِ مجموعة الدول هذه بهذه الأنشطة، بل بدأت بإقامة مهرجانات سينمائية في أوروبا تهتم بأفلام دول الشرق الأوسط، كما استمرت بإقامة أسابيع خاصة بالأفلام الأوروبية في دول الشرق الأوسط سنوياً كنشاط مكمل لدورها في تنشيط الحياة السينمائية في هذه الدول.
ويمكن من خلال كل هذه الأنشطة المتنوعة الاستنتاج بأن سينما دول الشرق الأوسط، وتحديدا الدول العربية، ستتطور بفضل أو بمساعدة من أوروبا، وهي ستتطور، على الأغلب وبطبيعة الحال إن لم تحصل الأفلام العربية على تمويل وطني، باتجاه أن تكون سينما ''أورو- شرق أوسطية''، لا سينما مستقلة ذات هوية وطنية محددة.
هذا الاستنتاج ليس متعسفا، فهو نتاج قراءة متمعنة، ليس فقط قراءة لحقيقة الأهداف المعلنة (منها التعايش بين الشعوب والديانات المختلفة في المنطقة)، أو حتى المستترة خلف السخاء الأوروبي المفاجئ الموجه للسينمائيين الشباب العرب، السخاء الذي هو في حقيقته فتات دعم لا يسمن في غالبية الأحوال ولا يغني من جوع، وقد يحل أزمة فيلم لكنه لن يحل أزمة سينما.. بل قراءة، بشكل خاص، لواقع السينما الأوروبية المعاصرة التي صارت صناعة الأفلام فيها تضعف يوما إثر يوم، و ما عاد بإمكانها الاستمرار في الحياة لولا أنها تتعكز بعضها على بعض، ومع ذلك تعاند وتطرح نفسها كجهة داعمة.
هذه حقيقة يستطيع التأكد منها كل من يتصفح قوائم الأفلام الأوروبية المنتجة منذ بداية الألفية الثالثة، حيث سيعاين واقع التزايد المضطرد في عدد الأفلام المنتجة من خلال التمويل المشترك بين مؤسسات إنتاجية متنوعة، صغيرة وكبيرة، خاصة ورسمية، تنتمي إلى مجموعة دول الاتحاد، وهي قد تكون سعيدة الحظ فيما لو دعمتها شركة توزيع أميركية.
لا يقتصر هذا الواقع على الدول الأوروبية الصغيرة التي لا توجد فيها صناعة قوية للأفلام، بل يشمل الدول العريقة في صناعتها السينمائية مثل ألمانيا وفرنسا وبريطانيا. إن تفسير هذا الأمر بسيط للغاية، فقد ازدادت تكاليف إنتاج الأفلام بحيث صارت ثمة حاجة عند المنتجين الأوروبيين للتآزر من أجل تحمل تكاليفها. بالمقابل، ازدادت هيمنة الأفلام الأميركية على أسواق العرض السينمائية في أوروبا والتي تتحكم فيها شركات التوزيع الأميركية الكبرى، إذ تقول الإحصائيات إن ما يقارب الثمانين بالمائة من عروض صالات السينما فيها مخصصة للأفلام الأميركية، ناهيك عن عروض الأفلام في محطات البث التلفزيونية، الأمر الذي قلل كثيرا من فرص الأفلام الأوروبية في جني الأرباح اللازمة لتحمل نفقات العيش واستمرارية دوران عجلة إنتاج الأفلام.
لهذا ليس من المستبعد أن نجد نفسنا في المستقبل غير البعيد أمام واقع وجود سينما أوروبية عموما، سينما مشتتة الهوية، وليس سينما ذات خصوصية تنتمي إلى بلد معين له تقاليده وتراثه الثقافي، فلا نعود نتحدث، مثلا، عن سينما فرنسية، بل فقط عن سينما أوروبية، وربما سينما أوروبية متأثرة بالسينما الأميركية انجرارا وراء متطلبات سوق الأفلام واشتراطاته التي تحددها شركات التوزيع العالمي الأميركية المهيمنة، حتى على صالات العرض السينمائي في الدول الأوروبية. وهذا في الحقيقة خطر قد تواجهه أفلام الدول العربية التي تعتمد على التمويل الأوروبي، وهي الأفلام التي لا تستطيع أن تتجاهل استحقاقات التمويل الأجنبي وشروطه المعلنة والمموهة، والتي في نتيجتها تخسر الأفلام الكثير من هويتها المحلية والوطنية، لتصبح في نهاية المطاف خارج الجغرافيا الوطنية التي يفترض أن تنتمي إليها تمهيدا لأن توضع كلها في سلة الأفلام لا العربية بل الأفلام الشرق أوسطية، وهذه ليست مسألة اقتصادية فحسب، وليست مشروعا استثماريا ماليا فقط، بل لها، بالدرجة الأولى، انعكاسات واستحقاقات فكرية وسياسية، خصوصا فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي. وفي واقع الحال فإن أوروبا فيما هي تؤدي مهمتها في مجال دعم السينما العربية وتوجيهها نحو مسارات محددة تبدو وكأنها تفعل ذلك بالنيابة أو بالوكالة عن طرف آخر، فيما يكمل الدور الذي تقوم به في المجال السياسي.
بالمقابل، تتصرف أميركا التي لا تحتاج صناعة السينما فيها إلى الإنتاج المشترك مع دول أجنبية بطريقة مختلفة، فأميركا لا تدعم ماليا ولا تهتم مباشرة بسينما الدول العربية الواقعة ضمن جغرافيا الشرق الأوسط، بل تعد الدول العربية الغنية، النفطية خصوصا، التي لا توجد فيها صناعة سينمائية، بأن تضعها فورا في خريطة السينما العالمية وذلك عن طريق تقديم هذه الدول الأموال التي تستثمر في السينما الأميركية التي بدورها قد تستغل الإمكانيات المالية لإنشاء مشاريع استثمارية فيها في مجال البنية التحتية اللازمة لإنتاج الأفلام، والاستفادة من المناطق الطبيعية في هذه البلدان التي تغلب عليها البيئة الصحراوية، لتصوير بعض مشاهد أفلامها الأميركية قلبا وقالبا، وأميركا بذلك، تخلق وهما بدعم الطموحات الهادفة إلى إنشاء الصناعات السينمائية في تلك الدول.
* ناقد سينمائي أردني